Sunday, August 27, 2006

Cette guerre...


هذه الحرب...
مسوّدة خامسة لبيان لم يصدر

أحمد بيضون

بين أوائل الأسبوع الثاني من هذه الحرب وأواخر الأسبوع الرابع، عقدت في مكاتب اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو، خمسة اجتماعات لمثقـّفين زاد عددهم، في اجتماع واحد، عن عشرين وهبط في بقيـّة الاجتماعات إلى ما دون العشرة. وكان مرادهم أن يصدروا بيانا يجهرون فيه بموقف من الحرب ومن المخرج منها ويوقـّع عليه معهم من يرغب في ذلك من نظرائهم. وُضِعت تباعا مسوّدتان قصيرتان وجدتا غير وافيتين بالغرض. وفي الاجتماع الرابع، كـُلـّفتُ وضع مسوّدة ثالثة جاءت طويلة. وُزّعت هذه المسوّدة على المشاركين قبل الاجتماع الخامس بيوم، ولكنني اضطررت إلى تعديلها صبيحة يوم الاجتماع المذكور للـَحظ مخا استجدّ من الأحداث المتسارعة. بعد المناقشة التي انطوت على اعتراضات محدودة واقتراحات إضافة قابلتها اقتراحات حذف واختصار، قرّ الرأي على استبقاء الصيغة المطوّلة وتعديلها بحسب ما تحصّل من المناقشة وشفعها بمختصر قصير جدّا يـُبيّن معالمها الرئيسة ويـُنشر معها. وقد كـُلّف زميل من المشاركين وضع المختصر المذكور. على أن المختصر تأخر كثيرا ثم جاء مغايرا لما اتفق عليه. بعد ذلك سلك اللقاء سبيلا آخر وبدا أن مشروع البيان أهمل أو أجـّل. وكنت قد عدّلت المسوّدة، بحسب ما تقرّر، يوم 7/8/2006، فاستوت مسوّدة خامسة هي ما أنشره أدناه.

واضح، والحالة هذه، أنه لا يسعني أن أنفرد بالتوقيع على هذا النص، على الرغم من أنني كتبته من أوّله إلى آخره. فإن دَينه ثقيل لما جرى من مناقشات في الاجتماعات المشار إليها. واضح، من الجهة الأخرى، أنه لا يسعني أن أنسبه إلى الجماعة التي ولد من مناقشاتها لأنها لم تقرّه بصيغته الأخيرة هذه ولم تخوّلني نشره باسمها. لذا أنشره من غير توقيع متوسما فيه القدرة على الدفاع عن نفسه بصرف النظر عن التوقيعات. غير أنه ، لما كان ما جاء فيه هو موقفي بالضبط وكان هذا هو السبب الذي يحملني على نشره، فإنني أتحمل، بمفردي، المسؤولية عن كل كلمة فيه.

في كل حال، أراد هذا النص أن يلازم الموقع الخليق بجماعة من المثقفين. فأن يتخذ هؤلاء موقفا من الحرب الجارية معناه ألا يقتصر الموقف على تحصيل الحاصل من التضامن والشجب. هؤلاء مدينون لسائر اللبنانيين بخلاصة تامة العناصر، يحصّـلونها باجتهادهم، لحقائق الحرب ومسؤوليات أطرافها ولمستلزمات الخروج منها ولآفاقها أو لآفاق ما يليها. لذا لا يجوز أن يشبه الموقف المشترك بين مثقفين تسوية يتوصل إليها وزراء في الحكومة أو مساومة يجريها سفراء في مجلس الأمن. ومتى جنحوا مجتمعين إلى المساومة أو التسوية أصبح الأولى بكل منهم أن ينطق بموقفه منفردا. الحقائق مهمتهم ليس لهم غيرها وقد لا يكون لها غيرهم. وكان اللبنانيون وما يزالون أحوج ما يكونون إلى حقائق وضعهم في ساعة المصير هذه.

أحمد بيضون

إنها حرب على المدنيين

تشن إسرائيل على بلادنا حرب تدمير عدوانية تواصلت حتى الآن مدة أربعة أسابيع. قتلت هذه الحرب من مواطنينا ما يقرب من ألف وجرحت ما يزيد عن ثلاثة آلاف وشرّدت نحوا من مليون وخلـّفت دمارا هائلا في المساكن وفي مؤسسات التجارة والصناعة والخدمات وفي الأراضي المزروعة وفي المرافق المدنية العامة، على أنواعها. ولا يزال هذا العدوان الذي أتى على أعمار غالية وأصاب بشرا في أجسامهم وأدمى نفوسهم، ماضيا في الإجهاز على ثمرات التضحيات التي بذلها جيل من اللبنانيين، مجتمعا ودولة، بعد حرب لبنان الماضية. ضحى هذا الجيل وكدح في الوطن وفي المغترب لتجديد مقومات الحياة في البلاد وإرساء حاضر سوي للأسر وفتح نوافذ على المستقبل للناشئين. بذل هذا الجيل التضحيات الجمة والجهود الدائبة وسط عثرات كثيرة ومصاعب ضخمة جسمتها مواريث الحرب الخبيثة في النظام السياسي العاجز أصلا والفاسد بنية وفي توجهات الطوائف المختلفة الآفاق وفي العلاقات بين ممثليها السياسيين، بالتالي، وفي خروج الكثير من الخيارات الجماعية عن سويّة المصلحة الوطنية الجامعة وعن حدّها. وقد هجم العدوان، على بغتة، ليجعل الجهود والتضحيات طعما لناره.

وذلك أن هذه الحرب التي تمعن فيها إسرائيل علينا، إنما هي، في أفقها القريب وفي عواقبها الكبرى، حرب على المدنيين اللبنانيين بما هم بشر وبما هم مجتمع يتماسك بلحمته الوطنية ويستمر بمرافقه وأطر عيشه ووسائل إنتاجه وبما هم مواطنون متحدون بانتمائهم إلى دولة واحدة. هذه الحرب حرب على المدنيين أوّلا، أية تكن أهمية المواجهات العسكرية البحتة فيها وأية تكن الأهداف العسكرية أو السياسية المعلنة لها. لذا وجب أن يتصدر المدنيون، بثقل نكبتهم كله وبالوزن الذي لمستقبل مجتمع هم أعضاؤه وبلاد هم أهلها، كل حساب سياسي أو عسكري تجريه القيادات، في الداخل والخارج، وكل قبول أو رفض لحلول تطرح. يجب أن يعلو مصير المدنيين، على كل مكسب معنوي لحزب، أية تكن تضحياته ومكانته. ويجب أن يكون هذا المصير هو الحدّ لأي تضامن مفروض مع أبناء الأمة أو مع أهل الملة، كائنين من كانوا. فحين كان هؤلاء يمدّون لنا يد العون – مغرضة أو خالية من الغرض – لم يحصل أن قدّموا مصائرنا على مصالحهم (ولا نقول: مصائرهم). ولا تثريب عليهم في هذا بل هو عين العقل. وإلينا يجب أن يعود اليوم، وكان يجب أن يعود أمس وقبل أمس، أن نعيـّن حدّا نقف عنده لأية مؤازرة نبذلها لأخ لنا في الدين أو نظير لنا في الخلق. وهو حدّ يجب أن نتواطأ عليه جماعة ما دامت عواقب تعيينه ترتدّ علينا جماعة. وليس لفرقة منـّا، اليوم، وما كان لها أمس، أن تنفرد بهذا التعيين أو أن تمليه إملاء.

الشرارة

خرق حزب الله الخطّ الأزرق عند عيثا الشعب وأسر جنديين إسرائيليين وقتل ثمانية. ليس صحيحا إذن أن الأمر لم يكن إلا أسر جنديين يعودان سالمين بالمبادلة وهو ما يردده، من أربعة أسابيع، مائة كاتب من كتابنا ومائة ناطق من ناطقينا، كل يوم. الأمر أيضا أن ثمانية جنود قتلوا. والأمر، في ما يتعدى ذلك، أن الخطّ الأزرق ليس الحدّ بين الجنوب اللبناني المحرر ومزارع شبعا المحتلة. فقد كان للخطّ الأزرق، طوال ست سنوات، اعتبار إجمالي رعاه الجانبان. ولو كانت كل دورية إسرائيلية تظهر على الطريق الإسرائيلي المحاذي للحدود صيدا مباحا لمقاتلي حزب الله لكانت الحال غير الحال على الخط الأزرق، في السنوات الست الماضية. ولو كان كل مقاتل من حزب الله يـُرصد، وهو يصلـّي، في العراء، عند أطراف هونين، فريسة سهلة للقناص الإسرائيلي المواجه لكانت الحال غير الحال أيضا على الخط الأزرق، في هذه السنوات نفسها. ولو كان التقاتل مباحا بين الجالسين ظهرا لظهر في مقام العبّاد، لجرت الدماء كل يوم على جانبي التلة.

كانت عملية عيثا الشعب-زرعيت خرقا جسيما لعرف مستقر، على علاته، ومغطى بالضمانة الدولية للحدود. وكان توقـّع التسليم الإسرائيلي بهذا الخرق وبتبادل الأسرى توقـّعا لقبول إسرائيل، لا بأسر جنودها وقتلهم فحسب، بل أيضا بانقلاب الوضع القائم على الخط الأزرق برمـّته و بجواز تكرار العملية كلما سنحت لتكرارها فرصة. هذا التوقـّع كان مفتقرا إلى أي دليل يصح التعويل عليه. حتى إنه يكاد يتعذر على أيّ منا تصديق أن يكون التسليم الإسرائيلي هذا هو الحساب الذي أجرته قيادة حزب الله فعلا، وهي من هي في الحنكة السياسية وفي الخبرة بمسلكيـّات العدوّ واعتباراته.

الحساب تخمينا

ما كان حساب حزب الله إذن؟ هل توقـّع مواجهة كبيرة (ومحدودة مع ذلك) يدخل فيها مع إسرائيل ويخرج منها منتصرا، على الرغم من كل خسارة محتملة، في صفوف مقاتليه وفي البلاد؟ ويكون النصر، مثلا، أن يحتفظ بالأسيرين، بعد المواجهة، مدّة طويلة أو قصيرة، مبقيا الباب مفتوحا لمبادلة آجلة؟ هل توقـّع أن تكتفي إسرائيل من ثمرات هذه المواجهة بإثبات كون الخطّ الأزرق لا يستقيم خرقه من غير كلفة كبيرة وأن العرف السائد على جانبيه يجب أن يستقر مجدّدا؟ كان من شأن هذا النصر أن يحقّق لحزب الله أغراضا عدّة:

1-إبراز قوّته في الميدان وسحب السؤال المتعلـّق بسلاحه من الساحة الداخلية، بعد أن بدا الحوار الوطني آيلا إلى الإفلاس، في هذا الصدد (وفي غيره) وأوشك السؤال على العودة إلى الساحة العامّة.

2- تفريج حصار القتل والتدمير الإسرائيليـّين عن غزّة بتحويل الكلفة المترتبة على إسرائيل في المواجهة اللبنانية إلى حساب الأرباح والخسائر الإسرائيلي في المواجهة الفلسطينية. يتحقـّق ذلك، على الخصوص، بإدخال عدد من آلاف الأسرى الفلسطينيين في الصفقة المنشودة، فضلا عن الأسرى اللبنانيين وهم قلائل. وقد كان وجود السلاح، على التحديد، في يد حزب الله واندراج هذا السلاح في بنية معتقدية-تنظيمية بعينها مصدر دفع شديد للحزب إلى مبادرة مشهودة في ميدان الفاجعة الجارية في فلسطين. وكان عسيرا على حزب الله أن يقاوم هذا الدفع. وقد يكون هذا الدفع ما جعل الحزب يسيء تقدير العواقب المترتبة على المجازفة.

3- التلويح للولايات المتحدة بالقبضة القادرة على إيذاء إسرائيل إذا مضت إدارة بوش قـُدُما في تصعيد المواجهة مع إيران.

إلى هذا يجوز الالتفات إلى رغبة محتملة في تعديل ما للوضع السياسي يشتدّ به، على نحو ما، أزر الجبهة الحليفة لسوريا في البلاد. وقد ذهب معلـّقون إلى ذكر المحكمة الدولية التي يفترض أن تمسك بدعوى اغتيال رفيق الحريري ومن قـُتلوا معه وذكر الحاجة السورية إلى وقف هذه القضية حيث وصلت. هذه فرضية نحتاج إلى معطيات ليست في يدنا، تتعلق بماجريات التحقيق، حتى نجيز لأنفسنا قبولها أو ردّها.

الحاصل

ليس لنا، إن تجاوزنا الحصر السقيم لبواعث عملية عيثا الشعب-زرعيت في "الوعد الصادق" بتحرير سمير القنطار ورفيقيه – غير أن نفترض صحـّة ما لنسبتنا الأغراض المشار إليها، أو بعضها، في الأقل، إلى هذه العملية. فهل تراها حققت أيا من هذه الأغراض؟

1- أطاح الردّ الإسرائيلي الفعلي (لا المتوقع) نظرية "توازن الرعب" بين المقاومة الإسلامية وإسرائيل إطاحة كلية. وهذه هي النظرية التي بنى عليها حزب الله دعواه المتعلقة بدور سلاحه في حماية لبنان. فقد أظهر ذلك الرد (ولا يزال) أن فقدان التوازن في الدمار فادح. فادح إلى حدّ يجعل من تدمير لبنان تدميرا مفضيا إلى تمزيق كيانه الوطني مقابلا راجحا لتهديد إسرائيل تهديدا جادّا في أمنها.

2- انكفأت فظائع غزة (ومعها فظائع العراق)، منذ أن اندلعت الحرب الإسرائيلية على لبنان، نحو عتمة الإهمال، فباتت وكأن أحدا في العالم لا يرى إلى ضحاياها أو يبحث عن رادع لها.

3- وجد الدمار اللبناني من رأى فيه نوعا من الأمثولة المصغـّرة لإيران، يعالج به (وبتهديدات غيره) عنادها النووي.

لا ضير من أن نضيف، أخيرا، أن هذه الأضرار وقعت فعلا في ساحة الحزب السياسية، سواء أكانت موضوعاتها هي التي حفزته إلى عملية عيثا الشعب-زرعيت أم كانت الحوافز غير ذلك.

لم يحصل حزب الله على مواجهة يستقيم، مع جني ثمارها، أن تـُحتوى عواقبها في أيام أو أسابيع بالقتال وبالسياسة. عوض حصر المواجهة على الحدود أو شفعها بضربة محدودة في الداخل، اعتمدت إسرائيل جريمة الحرب المعمـّمة على نطاق الوطن اللبناني من أقصاه إلى أقصاه. وارتأت إسرائيل أن إبعاد حزب الله عن حدودها يكون بدفع المجتمع اللبناني برمـّته إلى أعماق هاوية من الخراب الشامل يزداد قاعها بعدا كل يوم. فإذا استوقفتنا قانا واستوقفت بعض العالم، بما هي رمز، فإن كل يوم من أيام هذه الحرب شهد نظائر لها، افترقت عنها في توزّع المواقع أو في عدد الضحايا فقط ولم تفترق في النية الجرمية أبدا. قدّمت إسرائيل إلى عالم يغالب خجله ويواصل المراوغة حربا قد تبلغ نسبة المدنيين تسعين بالمائة من ضحاياها. ويتوزع هؤلاء بما يشبه المثالثة بين أطفال ونساء ورجال. وقد دافع مقاتلو حزب الله عن أرضهم وقراهم وبلداتهم دفاع البواسل ولا يزالون. وهم قصفوا قرى ومدنا ومواقع عسكرية إسرائيلية بالصواريخ قصفا دفاعيا أعلنت قيادتهم أنه لم يكن فعلا بل كان رد فعل. أصبحت الحرب في الجانب الإسرائيلي، إذن، حربا على المدنيين أيضا ولكن مع تفاوت فادح جدا في القدرة على احتواء نتائج الحرب وذيولها، بعد انتهائها، بين المجتمعين أو بين الدولتين. هذا على صعيد الواقع. ويتعذر، على صعيد الحق، تجاهل القسوة البالغة لظرف العدوان الذي بنى عليه حزب الله هذا الجانب من مسلكه الدفاعي. غير أن استهداف المدنيين، كائنين من كانوا، بالأعمال الحربية يبقى، مع ذلك، أمرا يتعين القول بحرمته، مبدأا، و يتوجب الجهر بشجبه في كل حال.

الربع النازح

أحيل ربع الشعب اللبناني، حتى الآن، إلى كتل بشرية لاجئة في بلادها، مسلمة، على رغم كل جهود العون والإغاثة، إلى أحوال كارثية يزيد هولها كل يوم تعثر توزيع المعونات، مع الإمعان الإسرائيلي في تقطيع أوصال البلاد. ويزيد أفق هذه النكبة إظلاما أن مزيدا من البيوت والمرافق يدمـّر كل يوم وأن الموائل في القرى وأحياء المدن تصبح غير صالحة لعودة سريعة تدارى بعدها جراح هؤلاء المواطنين في ديارهم. فلا تتمادى إقامة أعداد ضخمة منهم في مدارس سيخرجهم منها البرد إن لم يخرجهم بدء مستبعد في أوانه للعام الدراسي. وإذا كان حدب اللبنانيين على مواطنيهم النازحين مفخرة لمجتمعنا وكان قتال المدافعين على الحدود حافظا لكرامة مواطنينا، فإن هذه الحرب جرحت نفوسنا جرحا بليغا مع هذا كله. لم تحفظ كرامة اللبنانيين بإلجائهم إلى رفع الخرق البيض في مواكب نزوحهم ولا هي حفظت بتيه الأهل عن أطفالهم في غمرة الذعر.. ولا بافتراشهم بلاط المدارس ولا بالاستواء عالة على بعضهم بعضا وعلى الدولة وعلى الجمعيات الأهلية والإعانات الخارجية.

ويزيد الجرح إيلاما لكل ذي إدراك منا أن هذه الكأس كان يمكن إبعادها عن شعبنا وأن إبعادها كان، في ما وراء كل حساب واعتبار، أوجب الواجبات. فإذا كانت القيادة الإسرائيلية مرتعا لمجرمين في حق الإنسانية فما كان ذلك غائبا عن علمنا بل نحن والفلسطينيون أخبر شعوب الأرض به. وإذا كانت الإدارة الأميركية لا تتوانى عن تزكية الغدر بشعب ولا عن التحريض على هذا الغدر وتمديد المهل له فنحن طلائع العارفين بذلك وقد عاينـّا تاريخ العراق في ربع قرن وتاريخ فلسطين في ستين سنة. وكان علينا أن نعلم، فوق ذلك، أن هذه اللحظة التي نحن فيها مرجـّحة جدا لمسلك الغدر هذا ومغلـّـبة لموقف إسرائيل في مجتمع الدول على موقفنا وأن أي مكسب منتظر من عملية عيثا الشعب-زرعيت لا يعدل درء ما نحن فيه الآن. وقد كان المطلوب، من سنوات، أن يفيء سلاح حزب الله إلى إمرة الدولة اللبنانية وأن يصبح قوة لها وجزءا من سلاحها الشرعي ومصدر أمن للبلاد، بالتالي، لا مصدر خوف على مصيرها ومصائر أهلها أفرادا وجماعات.

الذين يريدون حصرنا بين أن نكون مع إيران وسوريا وأن نكون مع إسرائيل وأميركا ليس لهم نفوس تكفيهم ليكونوا مع أنفسهم. ليس لهم نفوس تكفيهم ليطالبونا بأن نكون مع أنفسنا ولا نحن، في عينهم، من ذوي الأنفس بما نحن لبنانيون. هم ليسوا موجودين، في عين أنفسهم. أو ان لهم أنفسا يكتمون عنا أسماءها فلا يستقيم طلب منهم مع هذا الكتمان. نحن مع أنفسنا بما نحن لبنانيون. بهذا وحده يستقيم لنا التمييز بين العدو والصديق ونعلم إلى أين نذهب في العداوة وفي الصداقة، ونعلم – على الأخصّ – إلى أين لا نذهب، ونعلم ما هي قضيتنا الآن.

ربع الشعب اللبناني النازح هو قضية لبنان الآن. هذه الجحافل من مواطنينا المقتلعين توشك، فضلا عن المحنة الكبرى التي تعاني، أن تستوي ثقلا مرصوصا قابلا لتحطيم موازين حساسة في البلاد. توشك أن تشرف بالبلاد على أفق مضرّج من جديد بدماء أهلها.

ربع الشعب اللبناني هذا قضية نأبى أن تعلو عليها قضية. نأبى أن تلبث في الهامش فيما يحتل المتن اعتبار حزبي أو حساب إقليمي أو مصلحة تحالف دولي. نحن لا نهوّل على أحد ولا نستسلم لوهم. قصارى أمرنا أننا لا نحمـّل إقبال اللبنانيين على خدمة المنكوبين من مواطنيهم أكثر مما يطيق ولا نعوّل على تفاهم القادة الروحيين أكثر مما يصحّ التعويل. امتحن اللبنانيون شيطان الجوار الإسرائيلي فلا يجوز لهم أن يمتحنوا شيطان الداخل الطائفي.

ربع الشعب اللبناني هذا سيقصم ظهر البلاد إذا طالت هذه الحرب. هذه الحرب لم يتقبلها اللبنانيون ولم يسلـّموا لقوة من قواهم السياسية بالحق في استدراجها عمدا ولا خطأا. واللبنانيون الآن في حال من الاستنفار العصبي تـُضاعف ما يعدّونه فضلا وتقريبا من نهاية المحنة وتضاعف أيضا ما يعدّونه زجـّا في الطريق إلى النهايات المهولة. هذه الحرب إذا طالت وتأخرت معها عودة النازحين كراما إلى ديارهم، وفقدت الدولة وحدة قيادتها، تحت ضغوط النكبة، نراها مفضية إلى حرب أخرى. إلى حرب تسوق بلادنا لا نحو التقسيم المبرمج بل نحو التمزق أشلاء لا مـُسكة لها، شبيهة بما رأيناه رأي العين من أشلاء أطفالنا في قانا.

خطة السنيورة

لذا كان واجبا أن تتوقف هذه الحرب الآن. الآن. لأجل الربع اللاجئ من اللبنانيين ولأجل لبنان. ونحن نرى سبيلا إلى وقفها في خطـّة النقاط السبع التي أعلنها رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة في مؤتمر روما ثم أجمع عليها مجلس الوزراء. ولسنا ههنا لنؤيد أضغاث أحلام ترضينا ولا يقرّنا عليها أصحاب القرار. فإن هذه الخطـّة قد لقيت من التحبيذ العام ما يكفي لنسبة إقرارها أو الأخذ بفحواها إلى حيّز الممكنات. وهي وضعت أصلا بعد مشاورات واسعة مع أطراف الداخل والخارج.

ومع اعتبارنا الكلّي للنقاط المتعلـّقة بالأسرى وبخرائط الألغام وللمخرج المؤقت، المعتمد للمنطقة اللبنانية الخاضعة، في آن، للاحتلال العسكري الإسرائيلي وللمصادرة السورية بحكم القانون الدولي، نرى أن صلب خطة السنيورة يتمثل في أمرين: 1- بسط سلطة الدولة على أراضيها كافة بما يفترضه ذلك من نشر للجيش على الحدود الجنوبية ومن حصر للسلاح في اليد الشرعية، و 2- نشر قوة دولية فاعلة على الحدود الجنوبية تضمن الاحترام التام لاتفاق الهدنة المعقود بين لبنان وإسرائيل سنة 1949.

ولقد جاء مشروع القرار الأميركي- الفرنسي الذي أعلن في السادس من هذا الشهر منحرفا انحرافا بيّنا عن هذه الخطّة. وكانت نقطة الانحراف الرئيسة هي المتـّصلة بمعالجة الاحتلال، الطارئ منه والقديم، حتى يستقيم وقف النار. وتقدّم خطـّة السنيورة حلا مؤقتا ذكرناه ويجب أن تحدّد دقائقه لمسألة الاحتلال القديم. وأما الجديد فحلـّه أن يفرض القرار الدولي الانسحاب الإسرائيلي إلى ما وراء الخط الأزرق وأن يتعهـّد حزب الله، بلسان قيادته، لا عبر الحكومة التي ليست داخلة في القتال، تعهـّدا قاطعا بإخلاء المنطقة المقررة لمرابطة القوات الدولية المعززة، وذلك بموازاة الانتشار الفوري للجيش اللبناني فيها، تسانده القوات الدولية المرابطة الآن في الجنوب. ذاك تعهـّد يجب أن يفصح عنه حزب الله مباشرة بعد أن أعلنته الحكومة التي هو جزء منها. وهو وجه من وجوه مسألة أوسع، هي مسألة وحدة السلاح الوطني. فلن يستقرّ خروج من الحرب ولن يستقيم استقرار للبلاد إذا لم تجد هذه المسألة حلا.

وفي صلب هذه المسألة، الآن وقبل الآن، مسألة السلاح الذي في يد حزب الله. فيتوجب على الحزب أن يعلن التوجه الصريح إلى ترتيب العلاقة بين سلاحه هذا وسلاح الدولة ترتيبا يحفظ وحدة هذا الأخير وسيادة الدولة. وحتى يحصل هذا سيبقى كل ما يحرص عليه اللبنانيون في خطر مقيم: سلامة البلاد من استمرار الحرب، تماسك الموقف الوطني وراء خطة الحكومة، تماسك الحكومة بما هو عنوان لتماسك البلاد أمام مفترق المصير، السلم الأهلي أكانت الخشية عليه آجلة أم عاجلة، وجود البلاد نفسه.

نحن نسجـّل لحزب الله شاكرين قبوله خطة النقاط السبع. ولكننا نسجـّل أيضا أن هذا القبول الذي جاء أوّلا في ذروة من ذرى الضغط الداخلي على الحزب، تبعته، بعد يوم أو اثنين، تباشير تملـّص مثـّلها، في الإعلام، كلام كثير قاله ناطقون باسم الحزب أو مقرّبون منه ثم تعزّزت بما صرّح به وزير الخارجية الإيراني أثناء وجوده في بيروت. ويعود الحزب إلى هذا القبول اليوم. ويشفعه بالموافقة على قرار الحكومة نشر الجيش في جنوب الليطاني. ولكن موافقة اليوم تأتي مجرّدة من قبول الشرط الذي يمكن الحكومة من تنفيذ قرارها. وهي تشرع أبواب هذا القرار المصيري بالتالي أمام تشكيك العدو ومناصريه في الساحة الدولية. هي لا تقرّبنا، إذن، من وقف إطلاق النار ولجم العدوان.

هنا أيضا شعب يحتاج إلى الحماية

مرّة أخرى، نجد أنفسنا إذن، حيال قبول مترجـّح، منقوص الفاعلية، يردّنا إلى ما خبرناه عند القبول الأول لخطـّة الحكومة. فإذ ذاك عاد الناطقون باسم الحزب والمقرّبون إليه إلى القول الممجوج إن إسرائيل هي التي تريد القوة الدولية وهي التي لا تريد المقاومة في الجنوب. يوشك هذا أن يردّنا ببـّغاوات فائقة التدريب ترى غاية الحميـّة الوطنية ومنتهى العبقرية الاستراتيجية في أن تقول آليـّا "لا" كلـّما قال العدو "نعم". ذاك، في الواقع، منتهى القبول بأسر العدو نفوسنا وعقولنا أشدّ الأسر. ذاك أيضا تسليم بأنه لا يوجد على جهتنا من الحدود شعب يحتاج إلى الحماية من العدوان وبلاد تطلب استقرارا على حدودها الجنوبية ودولة لا ينبغي لها الاستغناء عن الصفة الأساسية للدولة وهي السيادة. ذاك يفترض أخيرا أن مخرجا ما من النزاع الجاري يستقيم تصوّره من غير أن يقبله طرفا النزاع أو من غير أن يقبله أحدهما، وهو في هذه الحالة، إسرائيل.

عمليا يؤول هذا إلى إدامة الحرب-النكبة، في لبنان، أو إلى تكرارها وإلى ما يلوح في الأفق من انقلابها نهاية لهذا الوطن. مع ذلك يقول هذا أناس يعرفون أن هذه الحرب طعنت ثقة اللبنانيين بمستقبل بلادهم في الصميم. يعرفون أن من يجد سبيلا إلى الهجرة اليوم يقدم عليها دون إبطاء. ويعرفون أن من كان ينتوي من اللبنانيين، بعد ما جرى، إنشاء أسرة أو بناء منزل أو تأسيس مصدر للمعاش، في وطنه، سيضرب، قبل الإقدام، من الأخماس بالأسداس أكثر بكثير مما كان يضرب قبل هذا الشهر. هم يعرفون أن ما ضاع من الناس إنما هو أعمار وجنى أعمار وأن الأعمار لا تتسع لضياع جناها تكرارا. ولن يغيـّر من هذه الحال كثيرا كلام الحرقة الذي يقوله كثير من الجنوبيين اليوم حين يعلنون أنهم مستعدون للبناء عشرين مرة ولتأتِ إسرائيل ولتهدم.

لتتوقف هذه الحرب الآن، إذن، وليصبح محالا، بعد الآن، بقدر ما يستطاع افتراض الاستحالة هنا، أن تأتي إسرائيل وتهدم.

بالحقيقة وبالحياة وبحزب الله

لسنا سياسيين لنسيغ اجتزاء الحقائق أو قلبها أو طمسها أو إرجاء النطق بها. السياسيون يتحسبون من توليد أقوالهم أفعالا تنقلب عليهم أو على من يمثلون. نحن لا نزعم تمثيل أحد. نحن مواطنون ونحن شهود. لذا لا نجتزئ رعاية لظرف ولا نقلب ولا نطمس ولا نرجئ النطق بحق يوجب النطق به. القبول بخلـّة من هذه الخلال يعني، في حالتنا، أن نذهب وشعبنا إلى أقصى الكارثة ونحن عميان. ولن تصلح لنا مراجعة النفس بعد سنين ولا النقد الذاتي بعد فوات الأوان. لن تعطى لنا مهلة أصلا. أبطل نوابنا اتفاق القاهرة بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وكانوا قد أبرموه قبل ذلك بنحو من عقدين. راجعوا أنفسهم. لم تقم المراجعة من ماتوا مظلومين في العقدين ولم ترجع عمائر خربت. كان الأولى ألا يعقد الاتفاق وأن تكون السياسة غير السياسة التي استقرّ مرجعا لها. حقائق هذه الحرب تقال فورا ليستقيم الطلب الملح أن توقف هذه الحرب فورا.

مع الصراحة في الاختلاف، نتمسّك بحزب الله تمسّكنا بغيره من قوى مجتمعنا السياسي. نحن متمسّكون به فريقا تامّ الأهلية في هذا المجتمع، يحدّد جمهوره اللبناني وحده دوره ومكانته في البلاد وتكفلهما، في عين اللبنانيين كافة، تضحياته ومنجزاته. وإذا كان اللبنانيون يتوزعون اليوم أفرقاء في تقديرهم مسؤولية حزب الله عن هذه الحرب وفيها، فإن هذا الجدل يجب أن يجد، الآن وغدا، مصبـّاته الحصرية على المنابر وفي المؤسسات السياسية... وفي صناديق الاقتراع متى أمكن الاحتكام إليها.

لكننا، قبل التمسّك بأيّة قوة سياسية وفوقه، متمسّكون بتغليب قيم الحياة والعمران وحقوقهما في شعبنا على رموز الموت. متمسّكون بإيثار الكرامة مجسـّدة في أعلام مرفوعة على الديار العامرة لا على الركام المحروق. متمسـّكون بتغليب هذا كله في السياسة والتربية والدفاع سالكين إلى ذلك مسالك الرأي والإقناع بالحجة وبالمثال. ونحن نرى أن رأس السبيل إلى ذلك سياسة دفاعية تجنـّد لها الطاقات الوطنية، في ظل الدولة، وتلزم حدود القانون الدولي وتطلب رعايته وضمانته وتسدّ السبل أمام العدوان ولا تشقّ الباب أمام همجيـّ ته.

أهل الجانب المظلم من الكوكب

لذا كان لزاما علينا أن نعزز حضورنا في منظـّمة الأمم المتحدة وأن نصرّ على مرجعيـّتها في تدبيرنا موقعنا من الصراع الجاري في هذه المنطقة من العالم. ولا يجوز لنا أن نتخذ من الظلم الذي تنطوي عليه قرارات للأمم المتحدة أو نظام عملها نفسه سببا لاعتزال العالم الذي تـُمثـّل وللإيغال في عزلة لا تفضي إلا إلى إطلاق يد العدوان دون حدّ في ديارنا وإلى إباحة قتلنا في ظلمة التجاهل. فإن الأمم المتحدة ساحة الصراع السياسي الأولى في العالم وليست محكمة يركن فيها صاحب الحق إلى القانون وحده. وإنما ينتزع الحق فيها انتزاعا بتجييش المصالح واستثمار التناقض وإحسان المفاوضة ومعاطاة المبادلة والمساومة، أي بالسياسة التي هي فن الممكن.

فلم يكن إلا جنوحا وخيانة للنفس أن يهاجم بيت الأمم المتحدة في بيروت حين نحن في قمة حاجتنا (وهي دائما قائمة) إليه وإلى ما يمثـّل وحين لا يوجد منفذ من نكبتنا ما لم تفتحه المنظمة الدولية. ولن يكون إلا جنوحا وخيانة للنفس ألا نضمن بقاء كل السفارات مفتوحة في عاصمتنا دون قيد على دولها ولا شرط وألا نطلب بقاء وسائل الإعلام، دون قيد ولا شرط عليها أيضا، حاضرة في ساحتنا لتنشر في العالم كلمتنا التي تنطق بها دماء ضحايانا وأنقاض بيوتنا. فإن أسوأ ما نصنعه بأنفسنا أن ننتقل مختارين إلى الجانب المظلم من الكوكب. نحن الآن في بؤرة الانتباه من أقصى العالم إلى أقصاه. ولا يجوز لنا لا اعتزال العالم ولا تطويل محنتنا بأيدينا إلى أن يملـّها العالم أو يدمنها أو يأتي من الأحداث الأخرى ما يدفع بها قسرا إلى الظل.

الإصلاح السياسي

وفي يوم نرجوه قريبا سنعود من حيث بدأنا هذا البيان. سنعود إلى نظامنا السياسي الذي غادرناه ، مع بدء العدوان، يتخبط في عجزه وأعطاله. سنعود إليه حين نعاين معالجته لذيول هذه الحرب وهي تراوح ما بين الشلل وشراء الحركة بالفساد العميم. سنعود إلى الصيغة التي قرنت الحصص الطائفية (بعد أن فرضت الحرب الماضية أوحديـّة التمثيل لكل طائفة أو كادت) بحقوق الفيتو المتقابلة. سنعود إلى اتفاق الطائف الذي نـُحِر حين جُعـِل الجانب الانتقالي منه أساسا لصيغة غير محدودة المدة. فاكتفي بتعديل الأنصبة والصلاحيات وافترض الإجماع، في ما يتعدى ظاهر النص، شرطا باطنيا لعمل الهيئة الحاكمة. هذا فيما كان الاتفاق يفرض السعي إلى تحرير مؤسسات الحكم والتمثيل والإدارة من التوزع متاريس للطوائف، تفرض إجماع ممثليها على كل قرار. وكان الاتفاق يفرض، في هذا السبيل نفسه، أن يستحدث، على القاعدة الطائفية، مجلس للشيوخ يستوي مرجعا في الشؤون المصيرية حصرا. فكان في ذلك كله ما يخرج بصيغة الحكم من منطق الحصص واختلاط السلطات وحقوق النقض المعممة إلى منطق دولة القانون، منطق الضمانات المحدودة بالقانون، المانعة للتمييز بين المواطنين أو للتفريط بحقوق جماعاتهم لا غير. وكان في ذلك ما يحرّر الحكم من مقايضة الشلل بالفساد في كل أمر... هذا كلـّه سيواجهه اللبنانيون مجددا، على نحو مضاعف الحدة، حال خروجهم من هذه الحرب. وأما الآن فينبغي أن تكون صيحتهم واحدة:

أن تنتهي هذه الحرب فورا وأن نجدّد بالاستقرار المضمون على حدودنا ثقتنا ببلادنا...

أن تنتهي هذه الحرب فورا وأن تكون لنا دولة لا تنتهك سيادتها من الداخل ولا من الخارج ليبقى لنا وطن.

بيروت، في 7 آب 20