Friday, July 22, 2005

Mars Trahi, par Abbas Beydoun

آذار المغدور وتوقف المشروع الاستقلالي
عباس بيضون

حين نعلم ان مئة شخص لقوا حتفهم في عملية انتحارية أمام مسجد "شيعي" طبعاً، وان عشرين طفلاً ونيفاً عجنت اجسادهم في عملية انتحارية أمام مدرسة "شيعية" طبعاً. ننتبه إلى أننا محبوسون في الوضع اللبناني الى درجة أننا من دون هول كهذا ما كنا لنجد وقتاً لنتطلع دقيقة الى ما يجري حولنا. و"حرتقة" كل يوم؛ التشكيلات الوزارية المتوالية وزيارة الرئيس المكلف الى فخامة الرئيس ووقائع نجاة الياس المر (لماذا لم يطوب شهيداً حياً)، استغرقتنا على نحو إدماني، هكذا بقينا في حجرتنا اللبنانية لا نلاحظ أن الهول يحيطنا من كل جهة وأنه قد يطرق بابنا.

هناك حكاية "الإرهابيين" الأصوليين الذين طوردوا إلى الحدود اللبنانية من قبل الأمن السوري وحسب روايته، ولقوا مصيرهم داخل الأراضي اللبنانية (لاحظوا أنهم هربوا إلى لبنان وقتلوا فيه). إلى من لم تصله هذه الحكاية هناك حكاية أخرى؛ إرهابيون عراقيون بينهم مرافق لصدام حسين لقوا حتفهم داخل سوريا. في غمرة الحرتقات السياسية لم نتمعن جيداً في الحكايتين. هكذا وفرنا على أنفسنا رعباً أين منه الرعب الذي تسببه حوادث اغتيال فردية حتى الآن، الحكايتان تقولان، ليس عفوا، إن العراق ليس بعيداً عنا، وإن ناره قد تصل عبر سوريا إلينا. الحكايتان تقولان لمن لم يفهم، إن ما يحصل الآن ليس شيئا بالقياس إلى ما يمكن أن يحصل، سيكون ذلك بالطبع بنسية شرارة إلى بركان نار. إنذار صريح إذا تذكرنا اليوم حكاية "أبو عدس" نفهم أنها ليست عابرة. من اليوم الأول بعد اغتيال الرئيس الحريري جرى التلويح بالمصير العراقي، لكن أحداً لم يلاحظ. قيل كلام كثير لجر الانتباه الى العراق لكننا اعتبرنا ذلك تمويهاً فحسب وفضلنا أن لا نرى الإنذار الذي فيه. واليوم، الحكايتان الآنفتا الذكر أشبه بالطرق على الباب، لكننا أيضاً نفضل أن لا نسمع. بالقياس إلى ما يجري هناك ستكون اغتيالاتنا الفردية المتقطعة جنة، ولا يريد أحد أن يصدق أنّ نقل النار إلى جنتنا الاغتيالية ليس مستحيلاً. إنه إنذار للبنان وأميركا والاتحاد الأوروبي أيضا. إنذار فحسب حتى الآن، لكن الحصار الاقتصادي الحدودي ليس بعيداً عن هذا الإنذار، ففي يدي سوريا مفاتيح الضبط ومفاتيح الفوضى. هي التي تغلق وهي التي تفتح. بعد كل هذا الحديث عن السيادة نفهم أن الباب في ايد أخرى. وأن "السيادة" والحدود الحرة قد تتحول حبلاً خانقاً حول أعناقنا أو تتحول إلى شظايا ولسنا من يقرر.

إذا اضفنا الاغتيالات، فإن كل ذلك يعني أن الحدود يمكن أن تكون وبالاً وبأكثر من طريقة. إن الاستقلال قد يعني مزيداً من الضعف. إن الحرية قد تعني أن الباب ليس في أيدينا. لقد تحولت هذه بسرعة إلى امتحان مزر لقدرتنا، وستغدو بالطبع أعباء فوق طاقتنا. الدعم العالمي ليس سحرياً، والأرجح أن حماتنا الدوليين هم ايضا في حيرة، وربما يخشون أن يكون هذا أول الغيث، وان تتكرر هنا تجارب فظيعة هي الأخرى بدأت واعدة ومتوقعة. المهم ان نشوة 14 آذار انطفأت، كل هذا الاعتداد والتباهي والفوز السهل انقلب إلى ضده. يمكن أن نرى الآن كم ان المعركة لم تنته حينها وان الذين خالوا أنها انتهت كانوا في الغالب جنرالات خائبين، لقد جاء الفوز لكن تنبغي معركة كبرى وطويلة لاستحقاقه. ليست هذه المرة الأولى التي تكون فيها الأمور هكذا. لنقل ان سكرة 14 آذار لا تزال في رؤوس كثيرة. كل شيء يدل على أن المعركة القاسية بدأت، لكن في غفلة من كثيرين. الآن نحن في الحصار وتحت العسف ولا نملك تقريباً أي مناعة وأي قوة للمواجهة. الاغتيالات قدر والحصار الاقتصادي لا نجرؤ حياله لا على توسل سوريا ولا على مقاضاتها. أما الإنذارات الرهيبة فنفضل أن لا نصدقها، مع ذلك فهي معركة تحطيم وإذلال ونزع هيبة وإزالة انتصار. من يقارن اليوم بأيام 14 آذار يفهم ذلك تماماً. ويمكن بلا ترجيديا القول إن الانتصار يغدو وبالتدريج اسماً فقط وتبرأ منه، وربما يعتذر، بعض من صنعوه. بعض من سهروا على إعداده سنينا، وقاسوا في سبيل ذلك الأمرين تركوه وراءهم، وبعد بضعة أشهر لم يعد معياراً ولا أساس قسمة سياسية، بالسهولة التي تحقق فيها غاب عن الفعل، الفوز تم سريعاً، ولكن كيف يصمد تحت مطارق كل يوم، وتحت حصار المعركة المطبقة من عدة جهات. يتكلمون عن لصوص 14 آذار ولم يسرق أحد 14 آذار، لقد غدره الكل تقريباً ونسوه حين تحول إلى معركة يتطلب خوضها شروط حرب فعلية.

يمكن الكلام عن تجويف الحياة السياسية، عن الانقسامات المتأرثة والحزازات، عن التركة الباهظة لثلاثين خلت. كل هذا صحيح لكن هذا هو الماضي وأحرى بنا أن نوجه سؤالنا أيضاً إلى الحاضر وإلى الداخل؛ ماذا فعلت قيادة الانتفاضة لتستحق ان تكون كذلك؟ ماذا اعدت لتدافع عن نصرها وتحول دون أن يتحول إلى كارثة ؟ ماذا فعلت وهي تراه يتحطم ويَغرق ويُغرق معه لبنان في أزمة مطبقة. ماذا فعلت إزاء الإصرار على الاقتصاص من لبنان واللبنانيين، والعزم على شرشحة الجميع ووضعهم أمام ضعفهم المقيم، إذا كان 14 آذار نوعاً من نصر مسبق فإن معركته جاءت بعده. وهي لا تزال إلى الآن وإلى مدى لا نعرفه. إنها حرب على لبنان، فماذا فعلت قيادة الانتفاضة لتحصين الداخل وترتيب الوضع والقيام بأعباء المواجهة؟ كيف فعلت لتبقى قيادة المجتمع ولتكون حقاً قيادته في ظرف بهذا الاستثناء.

ليس الجواب سهلاً، علينا أولاً أن ننسى 14 آذار وأن ننسى الحصار الحالي. لم يتم تحصين 14 آذار بلغة قادة الانتفاضة أنفسهم، ولا يريد أحد ان يتكلم عن تطلبات ومهام الحصار. شكا جنبلاط من افتقار "المعارضة" الى برنامج. أما ميشال عون فاعتد بالبرنامج، ليس مهما تكرار القول بأن البرنامج ليس مجرد نص، لكن البرنامج الذي افتقر اليه جنبلاط وجده سعد الحريري وليخوض الجميع مع عون في الانتخابات لعبة البرنامج نفسها، كان الكلام عن الإصلاح سهلاً بالطبع وكان مفهوماً، ان تتقدم حماية المقاومة أولويات جنبلاط بعد تحالف بعبدا، وكان الكلام عن برنامج اقتصادي قوامه الخصخصة وتحرير الاقتصاد من الدولة (في حال الحريري عون) ولا مقابل لذلك عند الآخرين، الكلام يذهب بعيدا بالطبع حين يتطلب الأمر ان يكون قريباً وأن يقف الجميع عند لحظتهم، اللحظة كانت تحصين الاستقلال وتكوين قوة اجتماعية حامية له. هذه اللحظة غدروها جميعاً، ما فعلوه هو تحطيم القوة الحامية بأي عذر كان. استكثروا على ميشال عون مقعداً في بعبدا وقادته النكاية الى تحالفات معروفة، كان يجب أن يبقى عون وبأي ثمن داخل التحالف "المعارض". بأي ثمن لو كانت هناك اولويات سياسية حقا ولو كان هناك حقا <<برنامج>> اذ ما هو البرنامج ان لم يكن استكمال الاستقلال وحمايته؟ تصوروا لو ان عون كان في داخل الكتلة الحامية لحركة 14 آذار. أما عنى هذا سياسات أخرى، وكتلة تاريخية أخرى، وبالتالي برنامجاً آخر. أما عنى ذلك بالدرجة الأولى تحصين 14 آذار وابقاءه حقيقة واقعة.

كل هذا الهروب البرنامجي الى الأمام كان يموه تراجعاً إلى الوراء. إذ إن ما جرى كان عمليا مما قبل 14 آذار، أراده جنبلاط على غرار تحالف ال2000. وشاءه عون بلا غرار سوى التقليد الانتخابي اللبناني. كان كلاهما المعلم القائد وقد تبلورت زعامته خارج أي رقابة وفوق كل رقابة. واثنان مثلهما لا يحتاجان الى برنامج لأنه فيهما ولأنه هما. اختار الاثنان تحطيم حركة 14 آذار وكتلتها التاريخية، ولم يكن التحطيم لينال فقط فعلاً شارعياً، ولكنه أصاب بالدرجة الأولى مشروعاً وبرنامجاً. كان برنامج جنبلاط والبريستول هو تحالفهما مع حزب الله، وكان برنامج عون هو تحالفه مع قوى السلطة الماضية، كان هنا المشروع الفعلي، أما 14 آذار فغاب مع مشروعه ومع كتلته.

الانقسام يتحول الى أولوية الأولويات عند السياسيين، فيما يستمر الآخرون في معركة 14 آذار ليستمر الخصوم في مطاردة 14 آذار. رموزه ومشروعه، أو معانيه، يستمر في مشروع مفاده نسف السيادة الوليدة ودحر الاستقلال الناشئ، مفاده أيضا خنق محاولة تحويل الاستقلال إلى مشروع داخلي وايجاد قوة تاريخية بديلة وايجاد نظام ملائم. معركة 14 آذار أقسى وإن كان انتصار 14 آذار سهلاً، والآن حين ينبغي أن توجد القوة الداخلية القادرة على تحصين الانتصار، على الدفاع عن المنجزات الفعلية ل14 آذار والتي هي ببساطة الاستقلال والسيادة. لا نجد أحدا في الساحة.

لا نجد أحداً. انفرط 14 آذار وانفرطت قواه وذهب مشروعه ادراج الرياح كما يقولون، وتحطمت كتلته التاريخية. لقد دخلنا في نوع من الخلاف على جلد الدب قبل اصطياده، وفي نوع تأمين مقاعد في مستقبل غير منظور. لا يريد أحد أن يسمع دوي المعركة المعلنة على البلد، وإذا سمع فإن ما يقوله يتراجع اميالاً عن لغة 14 آذار، لغة الاستقلال والسيادة غدت عتيقة وأدبية. التحالفات الانتخابية تمت على اسس أخرى، لنقل إن مفاوضات الوزارة كانت من القبيل نفسه، رفضت مرة ثانية فرصة توحيد قوى الاستقلال وخرج ميشال عون من الوزارة. وستكون الوزارة جماع ممثليها، ولا ينبغي ان نحلم هنا مجددا بمشروع استقلالي. تبدو مفاوضات الوزارة دليلاً أكبر على عمى الأكثرية. لن نتكلم عن مفارقات النتيجة (لحود على حساب عون وأين هي كتلة 14 آذار مع لحود وحزب الله) وبناء تحالف حكومي جديد أكثر سخرية ولا معنى، لن نتكلم عن دفع المسيحيين مجددا الى تروما تاريخية مع ما يتبع ذلك من مثالات انفرادية، يمكننا فقط ان نتكلم عن اختيار القوى الاستقلالية مجددا ان لا تنهض بعبء الاستقلال نفسه، ملتهية بنفسها، تاركة الحرب على لبنان تستمر في محاصرته واذلاله من دون اي تدبير من أي نوع. يرون الاغتيالات ويسمعون التهديد لكنهم متأخرون اميالا عن الحاضر.