Thursday, September 15, 2005

Le confessionnalisme prospère tue le système confessionnel

الطائفية المزدهرة تغتال النظام الطائفي
أحمد بيضون

أحببت ان أحدثكم هذا المساء في موضوع عام يتصل ببلادنا هو مصير النظام الطائفي اللبناني في ضوء التطورات الجارية التي شهدها عام انصرم بدأ بمعركة التمديد لرئيس الجمهورية الحالي ومر بمحطة كبرى هي اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومقتل العديد من مرافقيه ومن المارة العابرين. ثم أفضى ايضا الى خروج القوات السورية من لبنان والى تشكيل لجنة التحقيق الدولية التي ما برح عملها جاريا لكشف الحقيقة المتصلة بهذه الجريمة الكبرى. تلك هي التطورات التي شهدتها بلادنا في عام، والتي أردت ان أقرأ في ضوئها مصير النظام الذي اعتمدته بلادنا منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية على الأقل، عام ستة وعشرين، بل منذ تأسيس لبنان الكبير سنة عشرين.

كان هناك بعدان تضافرا في هذه التطورات، هما بُعد المد الشعبي اللبناني الذي عبّر عن نفسه بصور مختلفة من التظاهرات والاعتصامات والمهرجانات والذي لم تشهد البلاد مثيلا له من قبل، حتى في عام الاستقلال سنة ثلاث وأربعين والذي أكمل بُعدا آخر هو العملية الدولية التي بدأت في خضم معركة التمديد مع القرار 1559 الذي أصدره مجلس الأمن الدولي، وشهدت تطورا بارزا بعد اغتيال الرئيس الحريري في إيفاد لجنة تقصي الحقائق الى بيروت ثم بتشكيل لجنة التحقيق الدولية وذلك بعد ان اشتد الضغط على النظام السوري لسحب القوات السورية من لبنان وهي كانت قد بقيت هناك منذ سنة ست وسبعين.

أدى مقتل الرئيس الحريري وما تبعه من انسحاب القوات السورية الى تفكك متدرج تسارع في الاسابيع الاخيرة للنظام الاستخباري العسكري الذي شكل بطانة للنظام التمثيلي وللسلطة التنفيذية الظاهرة مدة خمسة عشر عاما. وكان نظاما سوريا لبنانيا مشتركا يحكم الدولة اللبنانية. هذه التطورات أطلقت حركة تغيير كبيرة في خريطة القوى السياسية اللبنانية وصورة مرابطها الاقليمية والدولية. وما اختاره مقارنة لدلالات هذه التطورات ولما هي مفضية اليه بنظري هو نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في الربيع الماضي. وهذا مجرد اختيار كان يمكن ان أعتمد سواه كان يمكن ان أنطلق من اغتيال الرئيس الحريري او من معركة التمديد او من انسحاب القوات السورية، ولكنني في ما يخص مستقبل النظام الطائفي بالذات، أرى ان المدخل الأمثل إنما هو تأمل في نتائج الانتخابات النيابية المشار إليها. نتائج هذه الانتخابات تتيح لنا ترسّم التغيير الحاصل في منطق عمل النظام اللبناني إذاً وهو يواجه مشكلات اخرى لا يمكن تأجيلها طويلا. وخلاصة التأمل، بل خلاصة النظر في أمر هذه الانتخابات اننا خرجنا منها بكتلة نيابية كبيرة لكل من الطوائف الاربع المتصدرة في البلاد. كتلة متمتعة بشبه احتكار لتمثيل الطائفة والكسور الطائفية المختلفة الملحقة بها وذلك في السلطتين التشريعية والتنفيذية. والطوائف الاربع التي أصفها بالمتصدرة، هي الموارنة والسنة والشيعة والدروز. ومعلوم ان في لنبان ست طوائف تنعت بالكبرى، إذ يضاف الى هذه الأربع الروم الارذودكس والروم الكاثوليك ولكن الروم عموما، أرذودكسا وكاثوليكا، ليسوا مستكملي شروط التطيف السياسي، وشروط الاستحالة الى طوائف سياسية، إذ ينقصهم على الأخص القاعدة الجغرافية، وتشترك عوامل متداخلة تاريخية واجتماعية في جعلهم غير بارزين او غير متمتعين بالبروز الطائفي تحديدا الذي تفرضه لنفسها الطوائف الاربع الاخرى. انتهي الى ملاحظة هي ملاحظة الاختلاف الذي أبرزته الانتخابات بين ما استقر عليه تمثيل الطوائف المحمدية الثلاث من جهة وما استقر عليه تمثيل الطائفة المارونية.

في حالة المحمديين خرجنا بمد كاسح لقوة واحدة عند كل من السنة والدروز وبمد كاسح لقوتين عند الشيعة، ولكن هاتين القوتين متلاحمتان حاليا، ولا يرجح انتقالهما الى الاختلاف ولا الى مجرد التنافس في الظرف الراهن المتسم باستقطاب طائفي شديد وبحاجة كل من القوى السياسية الى التحاشي من العزلة. في حالة الموارنة خرجنا بقوة رئيسية هي كتلة العماد عون وبأخرى أضأل نفوذا وحجما هي كتلة القوات اللبنانية وبنثار موزع بين كتل الطوائف الاخرى وهو نثار يوجد ما يوازيه في حالات الطوائف الاخرى ايضا. السبب في هذا الاختلاف بين الطوائف المحمدية من جهة في ما حصدته من نتائج للانتخابات والطائفة المارونية من الجهة الاخرى لا يرد الى وجود مزيد من التنوع السياسي في الوسط السياسي الماروني ولا الى عصبية مارونية اضعف مما هي عليه الحال في الجانب الاسلامي. فإن الاستنفار حاصل وشديد عند الموارنة وعند غيرهم على حد سواء. التفسير نبحث عنه في قانون الانتخاب بتقطيعه المعروف للدوائر في التوزيع الذي فرضه هذا التقطيع في الكتلة الناخبة المسيحية. ولو أن تقطيعا آخر للدوائر اعتمد لكان التمثيل الماروني قد استقر كله تقريبا في كفة واحدة. شأنه في ذلك شأن تمثيل الطوائف الاسلامية، فإنما هي الاصوات الاسلامية التي كسرت وحدة هذا التمثيل في مجلس النواب لا الأصوات المارونية على وجه التحديد. أسأل من بعد، ما الذي أوصل الاستنفار الطائفي الى هذه الدرجة من الحدة؟ الحق انه تغير المواقع من النظام الاستخباري المشترك وانقطاع العلاقة بينه وبين اثنتين من الطوائف الاسلامية، ثم بدء انهياره بعد اغتيال الحريري. فقد غلب الشعور بأن البلاد مقبلة على توزيع جديد لمقاليد السلطة وبدت حركة الحشود في الساحات سبيلا لكل من الجهات التي تبنتها الى تحسين حصتها من مقاليد السلطة. وبدت للجهة او للجهات المقابلة سبيلا محتملا للنيل منها ولتهميشها.

وفي هذا الصدد تحسن العودة الى الفهم الواقعي بعيدا عن الخرافات المتصلة بتجاوز مفترض للطائفية وتحقيق مزعوم للوحدة الوطنية أسفرت عنهما التظاهرة الكبرى في الرابع عشر من آذار. ففيما يتعدى النفاق الوطني الذي تتقن القيادات الطائفية إطلاقه، كان الرابع عشر من آذار من حيث الأساس، وبالرغم من وجود نوى ديموقراطية وطنية متعددة ومتفرقة فعلا بين صفوفه، ردا مباشرا على الثامن من آذار: التظاهرة الطائفية ايضا في ساحة رياض الصلح. وكان الثامن من آذار قبل ذلك ومن حيث الأساس ايضا، مبارزة جماهيرية طائفية مع الدفق الشعبي الذي وجد مصبه في جنازة الحريري ثم في ما تلاها من تظاهرات واعتصامات قريبا من الأضرحة في ساحة الشهداء. والذي لا يؤخذ بمدح الذات المتفشي وبالنفاق المتدفق كان وحده يستطيع ان لا يبغته الاستنفار الطائفي المتقابل الذي شهدته الانتخابات. فقد زعم كثيرون ان الانتخابات كانت انقلابا على روح الرابع عشر من آذار اللاطائفي ونقيضا له. وكان هذا الكلام السخيف يفترض وجود شعبين لبنانيين مختلفين صنع أولهما الرابع عشر من آذار وصنع الثاني الانتخابات، وأما الواقع فهو ان الانتخابات لم تكن غير الوليد الشرعي للثامن من آذار وللرابع عشر من آذار ولجنازة رفيق الحريري قبلهما، ولسائر ما شهدته الساحات من حشود. الواقع هو ان الشعب اللبناني لم ينقلب الى شعب آخر في غضون شهر واحد او اثنين. النظام اللبناني طائفي، ومن يقُل ذلك لا يخترع البارود. ولكن اللبنانيين وقادتهم خصوصا معتادون التحفظ في إعلان طائفيتهم وتداري جماعاتهم بعضها بعضا لأن هذه المداراة هي من شروط حفظ الحياة المشتركة وهي ايضا اساس معنوي لوجود الدولة. هذه المداراة هي ما سميته في كتاب قديم <<خفر الطوائف>> او <<حشمة الطوائف>>. واللبنانيون يصبحون طائفيين او يزدادون طائفية ويتخلون عن تلك الحشمة او عن جانب منها حينما تبدو القواعد التي ترعى عمل النظام مهددة بالاختلال او حينما تبدو القواعد نفسها غير منصفة لهذه او تلك من جماعاتهم ومغلبة لبعضهم على بعض وبابا بالتالي لتحالف بعضهم في وجه بعض مع الجهات المتفرقة في الخارج ويزيدهم تفرقها تفرقا، فكل طائفة تجنح في هذه الحالة الى رص الصفوف.

في كل حال، أسفرت الانتخابات النيابية الأخيرة عن وضع جديد فعلا على النظام السياسي اللبناني في أيام السلم. فإن وجود كتلة تمثيلية واحدة بكل طائفة تقريبا يحرم هذا النظام من كل مرونة ويجرده من البدائل التي يحتاج إليها عند استمرار الاختلاف بين اطراف الحكم وتعذر الخروج منه.

لا نحتاج الى التبسط في أمثلة غياب البدائل في هذا الوضع الذي أسفرت عنه الانتخابات. السنة تمثلهم كتلة الحريري وتمثل معهم كسورا من طوائف اخرى وهذه الطوائف بدورها في كتلها المركزية والقوية تطعن على أنحاء مختلفة في شرعية تمثيل هؤلاء الممثلين المعتبرين ملحقين في كتلة تخص طائفة اخرى. الشيعة يمثلهم حزب الله وحركة أمل، وهما على ما سلف متحالفان متفقان على موقف واحد منذ عشايا الانتخابات، وقد طرأ تطور على التقليد الذي كان متبعا منذ نهاية الحرب وهو اي هذا التطور إقبال حزب الله على المشاركة مباشرة في الحكم، وهو أمر كان يستبعده في ما مضى مشددا على تفرغه للمقاومة وعلى عزوفه عن الغوص في الصراعات السياسية اللبنانية وفي المشكلات المترتبة على التمثيل الطائفي في الحكومات المتتالية.

أخيرا، يمثل الموارنة من حيث الأساس كتلة كبيرة هي كتلة العماد عون. وقد اختلف مسلك هذه الكتلة عن مسلك الكتل الاخرى في أمر أساسي هو انها لم تشترك في الحكم في النهاية وقد عزفت عن الاشتراك بعد مفاوضات وأخذ ورد. هي لم تشترك في النهاية في الحكومة وهذه الحالة مهمة لأنها أتاحت لنا استخراج نتيجة من الوضع الذي أنشأته الانتخابات ذات وقع على الروحية الجديدة أو هي نصف الروحية الجديدة للنظام السياسي اللبناني حين لم تشترك كتلة العماد عون واسمها الرسمي كتلة الاصلاح والتغيير في الحكومة، اعتبر ذلك ضعفا في التمثيل المسيحي وكان مؤدى هذا الاعتبار انه كان يفترض ان تشترك هذه الكتلة هي ايضا في الحكومة. ما معنى ذلك؟ معنى ذلك ان الافتراض الاساسي الذي أصبح مستقرا بنتيجة الانتخابات هو ان مجلس النواب برمته يجب ان يكون ممثلا في الحكومة، اذ في الواقع لا توجد كتلة اخرى يعتد بها خارج الحكومة غير هذه الكتلة. ما معنى ذلك مرة اخرى؟ معنى ذلك ان فكرة المعارضة اصبحت مستهجنة، اصبحت غير واردة بمعنى من المعاني، في الوضع الذي أنشأته هذه الانتخابات الأخيرة، لما كانت كل طائفة ممثلة بكتلة واحدة فإن الاستغناء عن كتلة من الكتل يعني بصورة من الصور الاستغناء عن طائفة من الطوائف وهذا الاستغناء غير وارد قطعا في منطق النظام اللبناني. لا يستغنى عن الموارنة لا يستغنى عن الأرمن الكاثوليك او عن الانجيليين فكيف يستغنى عن الموارنة، لا يستغنى في التمثيل وفي منطق تكوين نظام سياسي عن اية طائفة في لبنان مهما صغرت فكيف يستغنى عن طائفة بحجم الطائفة المارونية، لا السكاني وحسب، وإنما السياسي والاجتماعي والتاريخي ايضا. إذاً، ينحو هذا النظام في الوضع الذي استقر عليه الى استبعاد فكرة المعارضة، هذه نقطة اولى وأساسية نسجلها استنادا الى ما سبق.

نقطة اخرى أشرت اليها هي ان هذا النظام بات مجردا من البدائل، ولا بد لي ان اسوق أمثلة دالة من المراحل السابقة التي يتوزع بينها التاريخ المعاصر للجمهورية اللبنانية، تفيدنا بمعنى وجود البدائل وبمعنى عدم وجودها. قبل حرب خمسة وسبعين كنا إذا استقالت وزارة يرأسها صائب سلام، صادفنا جملة من الشخصيات معروضة لتشكيل الحكومة، منها على سبيل المثال اليافي، كرامي، الصلح، الى آخره. اليوم إذا حصل خلاف مع كتلة الحريري، مع كتلة تيار المستقبل، وتعذر حله بسبب عدم التوافق على امور اساسية بين هذه الكتلة وسائل الكتل التي تمثل سائر الطوائف في البلاد فإنه سيكون متعذرا العثور على رئيس للحكومة، إذ لا يوجد في مجلس النواب ولا يوجد بالتالي في خارج مجلس النواب شخصية ثبت لها وزن سياسي بالانتخابات قادرة على ان تقنع من يكلفها ومن تكلف باسمهم بأنها ممثلة للسنة في موقع رئاسة الوزارة. إذاً لا يوجد من خارج كتلة الحريري بديل سني لتولي رئاسة الحكومة او لتمثيل الطائفة السنية عموما في الحكومة، أكان ذلك في رئاستها او في حقائبها.

عند الشيعة كان يوجد للتنافس سواء على رئاسة المجلس او على الحقائب الوزارية أمثال الأسعد، وحمادة وعسيران، والخليل، الخ. عند الموارنة كان يوجد من جهة سياسية في الستينات مثلا فؤاد شهاب والكتائب، وفي الجهات الاخرى شمعون وإده وفرنجية، فإذا حصل خلاف مع جهة فثمة جهة اخرى مرشحة لاستلام مقاليد الامور باعتبارها ممثلة لكسر كبير من الطائفة المعنية.

عند الدروز كان هناك على الدوام الجنبلاطيون واليزبكيون او الارسلانيون، وقد تمت تصفية الجناح الارسلاني في الانتخابات الاخيرة وبقينا على جناح واحد وهو ما كانت أرهصت به ظروف الحرب الاهلية على كل حال قبل المرحلة الاخيرة، ولكن كان النظام السوري وهو الحريص على موازنة أقطاب الطوائف أحدهم بالآخر، ظل يستبقي رمقا للخيار الارسلاني في الطائفة الدرزية.

في مرحلة أسبق من الستينات والخمسينات كان الوضع مختلفا في صورته، إذ كانت توجد كتلة وطنية وكتلة دستورية وكانت كل من هاتين الكتلتين تنطوي على تعدد في الانتماء الطائفي وذلك في ظل قيادة مارونية هي قيادة رئيس الجمهورية او قيادة الشخصية المقابلة المرشحة للحلول محله في رئاسة الجمهورية، كانت هذه هي الحال في الثلاثينات والاربعينات بين إده وبشارة الخوري.

النظام اللبناني تمكن في ماضيه كله، اي في مدى خمس وثمانين سنة تقريبا من أداء وظائفه، باعتباره طبعا آلة لتوافق متحرك بين الطوائف، ولكن الشرط لأدائه هذه الوظائف بقدر مقبول من المرونة، ولبقاء النظام مجرد بقائه كان انقسام كل طائفة على نفسها. شرط عمل النظام اللبناني الطائفي وشرط بقاء النظام الطائفي اللبناني هو وجود التعدد في كل طائفة وانقسام كل طائفة على نفسها، فكان كل ائتلاف حكومي بين ممثلين يحكم الى ان يظهر عليه العجز عن التوافق على مسألة او مسائل مطروحة او الى ان يصبح اخفاقه جليا في أداء ما طرح عليه او ما طرحه على نفسه من توافق. كانت الحكومة تستقيل إذ ذاك بطلب من رئيس الجمهورية او بعد تفاهم بين هذا الأخير ورئيس الحكومة او بعد تفاهم بين هذا الاخير ورئيس الحكومة، او بعد خلاف بينهما، في كل حال كان في المستطاع عادة التوجه بعد الاستشارات الى بدائل تستبعد العقد التي أطاحت الحكومة المستقيلة، وكان وجود هذه البدائل ثمرة لانقسام كل طائفة على نفسها سياسيا، ولو لم تكن الكسور متوازنة او متساوية. اليوم تبدو كل من الطوائف المتصدرة التي سبق تعدادها موحدة التمثيل الى حد يقطع الطريق على كل بديل تقريبا لمن يمثلها الآن في الحكومة، ولا يستثنى من ذلك إلا الطائفة المارونية ولكن هذا على ما أسلفنا استثناء ظاهري فقط، وقد أفضى اليه قانون الانتخاب وفرضته الاصوات الاسلامية. لذا يبدو انه بات على الحكم ان يمارس بالاجماع لا بالتوافق. والاجماع والتوافق أمران مختلفان جدا أحدهما عن الآخر. والسياسة في الأنظمة التعددية وهذه حال النظام اللبناني على ما هو معروف ممارسة انقسامية دائما السياسة ممارسة انقسامية دائما. فليس الانقسام عرضا فيها وإنما هو جوهرها. الانظمة الدكتاتورية وحدها انظمة إجماع. الدكتاتور يتفق مع نفسه فيحصل الاجماع او تتفق قيادة الحزب القائد مع نفسها فيحصل الإجماع.

في النظام اللبناني لم يكن الاجماع عادة متبعة في ما مضى. وصلت بعض الطوائف المتصدرة في بعض مراحل الحرب الى حال توحد نسبي حول قيادة للحرب، قيادة مرشحة للحكم ايضا باسم الطائفة المحاربة، ولكن كانت تلك ايام الحرب لا أيام السلم ودولته. وكان طبيعيا بمعنى ما ان ترص كل من الطوائف المتقاتلة صفوفها في الحرب. على الأعم يميل أبناء كل من الطوائف اللبنانية في الحرب وفي السلم سواء بسواء الى الشكوى من تفرق صفوف الطائفة حين يرونها متفرقة ويدعون الى الوحدة الطائفية ويسعى بعضهم اليها، ولكن الوحدة في الطائفة الوحدة في طائفة واحدة، فكيف بالوحدة في طوائف رئيسة عدة. لكن الوحدة في الطائفة كانت دائما مقتلا في النظام الطائفي القائم في لبنان وقنبلة موقوتة مزروعة فيه.

نترك التنظير العام جانبا ونسأل: هل المشكلات المطروحة اليوم على بلادنا تتيسر لها حلول يحتمل إجماع القيادات الطائفية الحالية عليها؟ بادئ ذي بدء، ما هي هذه المشكلات؟ بنود لم تنفذ في اتفاق الطائف. منها الغاء الطائفية السياسية ومنها اللامركزية الادارية ومنها الاصلاح الاداري. الدين العام وصيغ الاصلاح المالي والاداري وتأمين استقلال القضاء، حل لموضوعين لا يزالان مطروحين بموجب القرار 1559 وهما موضوع سلاح المقاومة الاسلامية وموضوع السلاح الفلسطيني. موضوع العلاقات اللبنانية السورية في ضوء النتائج المحتملة في التحقيق الدولي في اغتيال رفيق الحريري، موضوع الولاية الممدة لرئيس الجمهورية في ضوء نتائج التحقيق نفسه، وأبعد من هذا كله موضوع العثور على مركز للسلطة التنفيذية وحل مسألة التحكيم في خياراتها السياسية بعد ان انسحب الحكم السوري وبعد ان كان اتفاق الطائف قد نقل السلطة التنفيذية من يد رئيس الجمهورية الى يد مجلس الوزراء مجتمعا. ثم موضوع المفاوضة المتعلقة بالنزاع العربي الاسرائيلي اخيرا لا آخرا وهي معلقة الآن ولكن يحتمل ان تحرك او ان تتحرك في يوم ما.

ان نظرة عجولة على القيادات التي كرست الانتخابات الاخيرة تمثيلها للطوائف اللبنانية تفيد بما يستبعد كل شك ان اجماعها على حل لهذه او تلك من المشكلات المشار اليها، إنما يدخل في باب اضغاث الاحلام. فما الذي نفعله في هذه الحالة؟ ثمة مسلك معتاد في السياسة اللبنانية هو تأجيل المشكلات ما دام الاجماع مطلوبا لحل مشكلة من هذه المشكلات الكبرى التي أحصينا. وما دام الاجماع متعذرا فالمخرج هو النوم على المشكلة او ترك المشكلة نائمة. ولكن الانظمة كالبشر لا يسعها ان تنام الى الأبد وإلا لكانت ميتة، وفي حالتنا نحن ثمة امور تلح علينا وثمة امور في المشكلات التي أحصينا يُلح علينا فيها. يتحرك المجتمع الدولي او من يتولى قيادته من الدول اي على وجه التحديد الولايات المتحدة الاميركية ومن ورائها اوروبا ويطلب الى لبنان ان ينفذ ما بقي مستحق التنفيذ من القرار 1559. يمكن للمرء ان يداري او ان يراوغ ويمكن ان يؤجل ولكن هناك طرفا آخر في الموضوع وهذا الطرف ذو سلطة وذو مقدرة وقادر على إنفاذ ارادته في من يعصى بالعقوبة وبأشكال شتى من الضغط. لسنا وحدنا في هذا الباب من أبواب المشكلات التي نواجه. لا نستطيع ان نؤجل الى الأبد معالجة الدين العام. وقد أجلنا هذه المعالجة حتى الآن مدة اطول بكثير مما يجوز لنا ومما ينبغي لنا إن كنا مسؤولين عن أنفسنا وعن الأجيال القادمة اي عن أولادنا من مواطني الدولة اللبنانية. فتأجيل العلاج لا يبطل المشكلة وإنما يفاقهما وينتهي بنا الأمر الى انهيار مالي يعطيه الخبراء مهلا متباينة ليحصل ولكنهم مجمعون على أنه ليس بعيدا جدا إذا ما نحن أحجمنا عن المعالجة الى آخره من الأمثلة. إذاً فالتأجيل هو حل مريض بالوهم.

ما أعتقده شخصيا هو ان علينا ان نغير نتائج هذه الانتخابات باجراء انتخابات جديدة على أساس قانون جديد. إذا كنا مصرين على البقاء في إسار النظام الطائفي. إذا كنا مصرين على البقاء راسغين في أغلال هذا النظام فإنه لا بد لنا بحكم منطقه بحكم قواعد عمله منذ ان نشأ، ان يكون تعدد في تمثيل كل طائفة. ويقتضي هذا ان تعتمد النسبية لأن النسبية تؤمن وصول الأقليات في الطوائف الى مجلس النواب وتؤمن بالتالي امكان تحالفات متحركة ومرنة بين أكثرية من طوائف معينة وأقلية من طوائف اخرى بحيث يتوفر البديل عند حصول الخلاف وتتوفر من جديد امكانية التوافق. إذاً ما أراه أننا بدأنا نعاني خللا في مسلك الحكم اليوم الذي تحدده في العمق نتيجة الانتخابات وإن كان يبدو ان ما يحدده هو أمور اخرى من قبيل التحقيق في مقتل الرئيس الحريري وانتظار التقرير وما الى ذلك. وضع النظام السياسي هو المحدد في مسلك الحكم في هذه الآونة وهذا المسلك متعثر في مواجهة المشكلات الكبرى المفروضة فرضا من المرحلة المتقضية على بلادنا. على ان هذا الحل الذي ارتأيته لا ينفذ في الواقع الى عمق المشكلة. عمق المشكلة هو الطائفية، عمق الحل هو معالجة المشكلة الطائفية. حاليا يبدو هذا الأمر مستغرب الطرح. مجرد طرحه يبدو مستغربا وذلك بسبب ما نعيشه من استنفار مخز في المشاعر الطائفية ومن تعبئة بذيئة لهذه المشاعر، ولكن لا بد من ان يواجه هذا الأمر في وقت يحسن ان يكون قريبا لا بعيدا. لا بد ان يواجه هذا البند من بنود اتفاق الطائف الذي نص على انشاء هيئة وطنية تدرس السبل الى تجاوز النظام الطائفي. وذلك لأن كل قراءة متنبهة لمجريات السنوات الاخيرة التي أعقبت الحرب اللبنانية تدل على ان هذا النظام دخل في طور جديد من اطوار ازمته الدائمة وأدخل البلاد في نفق طويل لا يستطيع هو نفسه ان يخرجها منه. هذا بالطبع فضلا عن المسائل الحقوقية. مسألة حقوق المواطنين الذين لا يريدون ان يكونوا طائفيين والذين يفرض عليهم هذا الانتماء فرضا. لماذا إن لم يكن المرء طائفيا يكُن عليه ان يرشح نفسه للنيابة عن مقعد موسوم باسم طائفة؟! لماذا إذا لم يكن المرء طائفيا يفترض فيه ان ينتخب مرشحا للنيابة محسوبا رسميا بحكم القانون على الطائفة؟! لماذا يُستبعد خيار المواطنة في دولة طالما تشدقت بالديموقراطية؟! هذا كله لا يبدو مؤلفا لمجريات المرحلة الراهنة في عالمنا نحن وفي عالم اليوم كله، فالطائفية على ما تعلمون مستشرية من حولنا والوصفة السامة توصف الآن لبلدان اخرى. ويطلق اسم التعدد على ما هو تفتيت وتجزئة وسطو على استقلال المواطنين وما هو مصادرة لحق الفرد الذي هو اساس التشريع الديموقراطي واساس ما تمثله حقوق الانسان. هذه مصادرة للأفراد تعطى اليوم وصفة لدول متأزمة على أنها هي البديل وسوف تخرجها من أزمتها. على كل حال، التجارب قادمة وقائمة وهي واضحة من الآن وهي ان لم تكن واضحة لكثيرين فإن هؤلاء سوف يبصرونها حينما تكتمل وحينما تتسم ملامحها بمزيد من الدقة وتستوفي سائر نتائجها. لكل عصر درجته والظاهر ان الطائفية هي درجة من درجات المرحلة التي نعيشها اليوم وأنا وقفت أمامكم مع ذلك ووقفت امام غيركم قبل الآن وقلت وأنا اعرف هذا الأمر، إن الطائفية ليست حلا وإنما هي المشكلة.
شكرا لإصغائكم.

القيت هذه المحاضرة في 15 ايلول الماضي عند افتتاح النشاط الثقافي في المتحف العربي الاميركي الجديد في مدينة ديربورن في ولاية ميشيغان الاميركية.