Wednesday, March 15, 2006

La Liban maintenant et demain
Point de vue d'un groupe d'intellectuels libanais

Un an après sa publication, ce texte n'a strictement rien perdu de son actualité ni de la justesse de son analyse. Il représente aujourd'hui et pour longtemps encore un véritable "programme minimum" du changement.

لبنان الآن وغدا
وجهة نظر جماعة من المثقفين اللبنانيين


مفاعيل جريمة

ما تزال بلادنا تشهد، فصلا بعد فصل، عواقب الجريمة السياسية الكبرى التي أودت بركن من أركان الحياة السياسية اللبنانية في العقدين المنصرمين هو الرئيس رفيق الحريري وغيبت معه جماعة من مرافقيه ومن سائر المواطنين الآمنين. وهي قد أصابت أيضا مواطنين كثرا في أجسادهم أو في مساكنهم وأرزاقهم وأنزلت أضرارا في منشآت ومصالح كثيرة. ثم إنها نشرت مفاعيلها السامة إلى وجوه مختلفة من حياة المواطنين العادية وإلى ما تستقيم به هذه الحياة من أمن وعمل منتظم لمرافق المجتمع والدولة، على اختلافها.
في ما يتعدى ذلك كله، أشرعت الجريمة البلاد لرياح أزمة سياسية بالغة الخطورة كانت نذرها تتجمع من مدة طويلة وكانت لفحاتها الأولى قد هبت علينا بقوة في غضون الأشهر القليلة السابقة. وهي أزمة واجهتها، بالنزول إلى الشوارع والساحات، كثرة من اللبنانيين تنوعت مناشئها ومشاربها إلى حد خلت ذاكرة لبنان المستقل من نظير له. نزلت هذه الكثرة لترسم بشعاراتها الغالبة معالم تراها لمستقبل البلاد، معلنة حقها في حمل المسؤولية عن مصيرها بعد نزعها من أيدي الاستبداد والفساد التي طال عبثها بمقدرات الدولة وبحقوق اللبنانيين كافة.
كان من أمر هذه الجناية الفادحة، بادئ ذي بدء، أنها دفعت بمئات الألوف من اللبنانيين إلى قلب بيروت في موكب تشييع حزين وناقم لم تشهد له عاصمتنا مثيلا، على كثرة ما حفظت ذاكرتها من مواكب. وقد تلازم في الأصوات العالية المتجاوبة بين جنبات هذا الموكب وفي ما أسفر عنه من أعمال التظاهر والاعتصام مطلبان: أولهما جلاء حقيقة الجريمة من غير مماطلة ولا نقص ولا تحوير، ليترتب على هذا الأمر مقتضاه على كل صعيد؛ وثانيهما رفع يد الهيمنة السورية عن الدولة والبلاد. ولقد أفضى ضغط التظاهر والاعتصام، من بين ما أفضى إليه، إلى سقوط الحكومة في الشارع.
وكان من أمر الجناية نفسها، أيضا، أنها قوّت ووسعت إلى حد لم يسبق له مثيل، هو الآخر، مفاعيل الحملة الدولية الرامية إلى فرض انسحاب القوات السورية من لبنان وإنهاء هيمنة النظام السوري عليه. وهي حملة كانت قد بلغت، قبل مدة غير قصيرة، محطة أميركية تمثلت في استصدار القانون المسمى بـ"محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان". ثم بلغت ذروة جديدة في عشية التمديد المفروض فرضا لرئيس الجمهورية الحالي مع اتخاذ مجلس الأمن الدولي القرار 1559، مبنيا على مبادرة أميركية فرنسية. فآذن ذلك، على الأخص، بدخول أوروبي جامع صحبته أيضا أصوات عربية عديدة وصريحة، إلى حلبة المطالبة بانسحاب القوات السورية من بلادنا. وقد شفع القرار الدولي هذا المطلب بآخر موضوعه نزع سلاح المليشيات اللبنانية (ويقصد حزب الله) وغير اللبنانية (ويقصد الفلسطينية). ثم كانت جريمة الاغتيال مناسبة لاتخاذ هذه الحملة صفة الإلحاح وما يشبه الإنذار المتكرر للنظام السوري بلزوم الامتثال. واضطلعت بذلك أصوات قوية متآزرة هي جملة الأصوات الدولية ذات الأثر في مجريات الصراع الدائر على ساحات المنطقة العربية.
وكان من جرّاء هذا كله أن أصبح انسحاب القوات السورية وجهاز استخباراتها من بلادنا أمرا جاريا تنفيذه.

أن نصبح دولة مستقلة

وليس عندنا من ريب في أن الحملة الدولية التي شدّت من أزر الحركة الشعبية اللبنانية وحمَتها وحمَلتها على التشدد في صوغ مطلبيها الآنفي الذكر، لا تستنفد غاياتها السياسية في ما يعلنه أصحابها من مطالب تتصل برفع يد الهيمنة السورية عن لبنان وبسيادة الدولة اللبنانية. وإنما هي حملة تفيض مراميها كثيرا عن النطاق اللبناني. هذه المرامي تختلف، من جهة أولى، باختلاف الأطراف المجتمعة في الحملة. غير أن مدارها الأوثق، من جهة أخرى، إنما هو رغبة الولايات المتحدة، وهي في أوج رعايتها لمصالح إسرائيل ومطامحها، في بسط سلطانها الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي على هذه المنطقة من العالم، وهو ما يبدو تقزيم القوى الإقليمية وزعزعة "استقرارها" أو مواتها الدهري، بالأحرى، وسيلة راهنة بين وسائله.
إن ما نبتغي التشديد عليه، ونحن نستعيد هذا التشخيص (الشائع، في كل حال) لدواعي الحملة الدولية، هو أن الدفاع عن خيار آخر (معارض، كليا أو جزئيا، لوجهة التدخل الدولي الجاري) لا يستقيم مع الإصرار على هدر استقلال البلاد وإيداعها "ورقة" في خزانة سلطان مفلس ولا مع إباحتها لجراثيم الفساد المافيوي، على كل مستوى، أو مع ترك موازينها نهبا لفرق الاغتيال السياسي. بل إن اللبنانيين سيعجزون عن مساندة القريب أو البعيد على استعادة حق أو حرية ما لم يكونوا هم أنفسهم أحرارا واقفين عند حقوقهم. لذا كان السؤال الذي يطرح في مواجهة هيمنة مقبلة تنذر بالحلول محل الراحلة إنما هو "كيف نصبح دولة مستقلة؟" وليس هو بحال "كيف نبقى أرضا وشعبا مباحين؟"

حقوق لسوريا، حقوق للسوريين

لا نبيح لأنفسنا الغفلة عن مصالح سوريا الوطنية ولا عن دور مؤكد في دعمها يمليه على الدولة والشعب اللبنانيين جوار وتاريخ ووشائج لا تحصى. فهذه، في نهاية المطاف (وفي بدايته أيضا)، حقوق السوريين لا حقوق النظام السوري. على أن هذا التسليم لا يحول بيننا وبين تعيين الصورة الواجبة لما يترتب علينا الآن، نحن وأمثالنا من عامة اللبنانيين، دعما لسوريا. هذه الصورة نراها مجسمة، بادئ ذي بدء، في دعم الحركة الديمقراطية السورية. نراها مجسمة في مؤازرة الجهود التي يبذلها سوريون صمموا على التصدي لأسباب التهافت والخسارة في موقف نظام يطلب حقوق سوريا الوطنية وهمّه، قبلها، غلّ أيدي السوريين وكمّ أفواههم... نظام يحوّل عرق السوريين إلى أتاوات يجنيها لزبانيته التي لم تشبعها سوريا ولا كان أشبعها لبنان. ولقد ضرب لنا مثقفون سوريون مثالاً لصورة الدعم تلك حين تبنوا، في غمرة كفاحهم الصعب وظروفهم المرة، حق شعبنا ودولتنا في وجه نظامهم. هذا بينما أساء إلى كل لبناني من تعرضوا بالقتل والأذى لسوريين قصدوا بلادنا لكسب اللقمة، على غرار ما يتوزع أبناؤنا في مشارق الأرض ومغاربها وراء الغاية نفسها. فنحن ننظر إلى المناضلين من السوريين وإلى من أجرم من اللبنانيين ونعتبر. وهذه العبرة ترسم نظام قيمنا كله وخط سلوكنا كله في هذا الظرف الذي تجتازه بلادنا وفي كل ظرف آخر

مبارزة

من خارج هذا المنطق، خرجت، يوم الثامن من آذار، محفوزة بتصميم معلن على إثبات التفوق في الشارع وكسر احتكاره، جموع أخرى غفيرة من اللبنانيين تصدرها حزب الله وتنظيمات أخرى مجارية لسياسة النظام السوري في لبنان. خرجت لتشدد على الجانب الثاني من أبعاد الأزمة، أي على احتمال إفضاء التدخل الدولي إلى تغيير الموقع اللبناني من الصراع العربي الإسرائيلي وعلى مطالبة الدول المتدخلة لبنان بالعدول عن خيار المقاومة المسلحة. وقد أعرب الخطباء في هذه الجموع عن الشكر للدور الذي أدته سوريا في لبنان على مدى ثلاثة عقود، رافضين رفضا قاطعا ما يخص الجانب اللبناني من القرار 1559 ، وهذا في الأيام التي كانت فيها الدولة السورية تعلن التزامها إياه وتباشر سحب قواتها من لبنان بموجبه. أخيرا، شفعت القوى المتظاهرة في ساحة رياض الصلح هذا كله بطلب الحوار مع المعارضة وبتبني الإصرار الجامع على كشف الحقائق المتصلة باغتيال رفيق الحريري، ولكن من غير تلبّثٍ عند مطلب المعارضة المتعلق بشروط نزاهة التحقيق وفاعليته.
ثم كان أن احتشدت في وسط بيروت، مع مرور شهر على جريمة الاغتيال، جماهير هائلة الأعداد تقاطرت من أرجاء البلاد، لم يغب عن تلبيتها دعوة القوى المعارضة همُّ التفوق العددي على حشد الثامن من آذار والعودة، بالتالي، إلى فرض موقف المعارضة الإجمالي على أنه موقف الأكثرية من اللبنانيين. وهذا لا في وجه جماهير القوى الموسومة بالـ"الموالاة" فحسب، بل أيضا في وجه حيازة هذه القوى أكثرية في مجلس النواب موروثة من عهد أخذ ينقضي، ومع هذه الأكثرية، بطبيعة الحال، سيطرة على أجهزة أمنية وقضائية اتصف سلوكها تكرارا بالجنوح عن أصول عملها وبالتجاوز السياسي لحدود القوانين.
ولقد كان للمعارضة ما أرادت لجهة ضخامة الحشد. ولكن هذا لم يبطل (ولا يجوز الظن أنه أبطل) انتشار حال من الشقاق السياسي ـ الأهلي في طول البلاد وعرضها. وهي حال لم يمنع التنوع الطائفي (والاجتماعي) على ضفتيها ـ تنوعا كان أظهر على ضفة المعارضة منه على الضفة الأخرى ـ أن تنسب إلى هويات طائفية متواجهة... هوياتٍ تنزع المواجهة بينها إلى تعديل الموازين الطائفية المنصوبة في البلاد منذ نهاية الحرب.

الترجمة الفورية

هذا تشخيص يتعظ بالميل الثابت لصيغة النظام الطائفي نحو "ترجمة فورية" لكل أزمة سياسية إلى تباشير خلل في الميزان الطائفي وإلى استنفار طائفة أو طوائف، بالتالي، في وجه طائفة أو طوائف أخرى. ففي بلادنا هذه، لا نخرج عادة من أزمة ما بكتلة سياسية تقوى ونسلّم بتفوّقها وبأخرى تضعف ونتقبل تهالكها. وإنما نخرج، في ما وراء المواجهة بين الكتل السياسية، بطائفة أو طوائف تقوى وبأخرى تضعف. وهو ما يجعل الغنم والغرم يشملان سواء بسواء من ينتمي من أبناء طائفة معنية إلى قوة سياسية رابحة أو خاسرة ومن لا ينتمي إلى القوة المذكورة، بأي وجه، بل أيضا من يناصبها العداء. فيفضي تحول الدولة من موقف إلى آخر في الصراع الإقليمي، مثلا، إلى تهديد ما في يد هذه الطائفة وتعزيز ما في يد تلك لا من الحقوق فقط بل أيضا من القدرة على تجاوز الحقوق والتمتع بثمار الباطل. ويفضي هذا كله إلى استنفار جموع الطائفة خلف من ترى فيه ـ دون القوانين ـ حاميا للحق وترى فيه، من وجه آخر، حاميا للباطل.
تلك قدرة على الاستنفار عززتها الحرب وعشاياها ونشرتها إلى طوائف كانت فقيرة إليها في عهود مضت. فأصبحت للطوائف كافة أجهزة متنوعة، سياسية واجتماعية (ناهيك بما صمد من الأجهزة العسكرية). وضعت هذه الأجهزة يدها على مصالح حيوية للمواطنين وتولت إدارتها وغلّبت توزُّعَهم طوائف على كل توزّع آخر وتوزعَتهم كسورا من طوائف. فتعممت مصادرتها المواطنين في حقوقهم الفردية والجماعية، سواء بسواء. وحصرت بينها حقهم في اختيار انتماءاتهم، على أنواعها، إلى حد لم يعرفه لبنان ما قبل الحرب. واتحد في فرض حصرية الولاء وفرض تلبية النداء وسائل للدولة صادرها ساسة الطوائف وأخرى قدّمها الأقوياء في الجماعات المشحونة بتوتر الهويات وثالثة أغدقها حلفاء أو ولاة أمور من الخارج. فباتت الجماهير الطائفية الغفيرة تدعى فتنصاع، وبات "تجييرها" في الانتخابات أو ضبطها في جهة من الصراع السياسي ثم نقلها من جهة إلى جهة ـ متى قضى بذلك تقدير القيادة ـ أمورا ميسورة على نطاق لم تعرفه البلاد من قبل.
فوق ذلك، بلغ النظام الطائفي "ذرى" جديدة في تعطيله فاعلية المحاسبة الديمقراطية وتوزيعه الحماية على "مراجع" سياسية أدرجتها الحرب في شركة طائفية جديدة ـ قديمة، جمعت بين توازن الأطراف وتنافسها. استبعدت المحاسبة على الفساد التفصيلي الذي طغى واستشرى، إذ نظر إليها على أنها إخلال بمكانة "مرجع" ما ومن ثمّ بحصانة طائفة ما. وضخّم إنفاق الدولة وهدر المال العام أنصبةً متناظرة، يغلّب في توزيعها لا منطق المصلحة العامة وأولوياته ولا النظر إلى الضيق المطبق على إمكانات الدولة، بل منطق "الحقوق" المتقابلة للطوائف. وهي حقوق تختزل بدورها إلى حاجات "المراجع" نفسها من سياسية وشخصية. وأبيح رهن سيادة الدولة واختصاصاتها الأصيلة لأمر الخارج. رهنت السيادة والاختصاصات على صورة الـ"أنصبة" الطائفية أيضا، عند "مرابين" وملتزمي تنظيمات أو كسور من طوائف، تتواءم مصالحهم أو تتنازع، على أرض البلاد. ويبقى ماثلا في الأفق أن السلم الأهلي رهينة لهذين التواؤم والتنازع ولدرجات تحكّم الخارج في محاسيبه اللبنانيين.
وفي الأزمة الجارية، لم تخل الهواجس الطائفية من إقلاق لعلاقة التحالف المنسوجة بين القوى على كل من ضفتي المسرح السياسي المنصوب اليوم. وقد ظهر القلق على ضفة المعارضة خصوصا، تبعا لكون توسعها إلى المدى الذي بلغته حديث الحصول، حفزته ظروف التمديد لرئيس الجمهورية ثم الجريمة التي أودت برفيق الحريري. وهو توسع انتهى ببعض من القوى الطائفية إلى تغيير باغتها قبل أن يباغت سواها في قاموس ألفاظها السياسية وفي الموروث من مسلّمات مواقفها العامة.
غير أن هذا التشخيص الطائفي تحدّ من مطابقته واقع الحال، حتى الآن، لهجة الاعتدال الإجمالي التي سادت المواجهة، جازمة باستبعاد العنف وبإظهار الاعتبار من كل من الجهتين لقوى الجهة الأخرى أو لأهمها، في الأقل، ومصرة على استبقاء الأيدي ممدودة للحوار، وهذا من غير أن يظهر تغيير ذو مؤدى عملي في صياغة الموقفين المتقابلين. يحدّ من صحة التشخيص الطائفي أيضا حضور تيار شبابي ديمقراطي فعلا في الحركة الشعبية التي تتصدرها قوى المعارضة، وكذلك مشروعية طموح الاستقلاليين إلى اعتبار الاستقلال مطلبا جامعا، وإن لم يتجل الإجماع عليه، حتى تاريخه، في صيغة سياسية ملموسة.
التشخيص الطائفي عينه يمكن أن تزداد أسانيده قوة إذا اشتد التوتر وطال أمره. بل إن التوتر يمكن أن يؤثر أيضا في الميزان الطائفي على كل من الضفتين في اتجاه اختصاره وتظهير صورته، أي، بالنتيجة، في اتجاه الزيادة في خطورة المواجهة والانتقال بها إلى طور تعصى عواقبه على الضبط وتتخذ صورة الكارثة الوطنية. وهذا انتقال قد يعجل فيه ما يتوجس منه الناس، في ظرف الأزمة المستحكمة، من انهيار غير مستبعد للنقد الوطني وتزعزع لوضع الدولة المالي ومن تماد لحالة الجنوح أو القصور في المسؤولية السياسية والوظيفية عن الأمن. وذاك أن الانهيار الأول ينقل الأزمة من صعيد إلى صعيد، قبل أن تنتهي إلى مخرج، وأن الجنوح والقصور الأخيرين يتركان باب التخريب مفتوحا على مصراعيه

الحقيقة شأن سياسي

فلنعد، بعد هذا، إلى مطلبي الحركة الشعبية التي أطلقها اغتيال رفيق الحريري. ليس المطلب الأول، أي جلاء وقائع الحدث وغاياته وهويات الآمرين والمخططين والمنفذين، بالمطلب المقصور على إحقاق حقوق شخصية أصيلة ترعاها الشرائع كلها، وهي حقوق الضحايا. وإنما هو، في ما وراء ذلك، مطلب سياسي من الطراز الأول. فهو يعلن أن شعبا قد شهد من جرائم الاغتيال السياسي ما شهده في نحو من ثلاثين سنة قد طفح كيله من هندسة حياته السياسية بأفعال القتل. وهو يعبّر عن إدراك لكون الاغتيال السياسي يكون، في بعض حالاته (وهو قد كان يقينا في حالته الأخيرة هذه) عدوانا على شعب برمّته أو نوعا من الحرب الأهلية المختصرة، ولو ارتكبته يد خارجية. فيبتغي تعديل موازين البلاد السياسية بأكملها أو يرمي إلى تجميد مسيرتها الإجمالية أو إلى تحوير محصلات الصراع السياسي فيها من طريق الفتك بإنسان واحد.

هندسة المسرح وأصول التمثيل

ولقد بقيت اليد الطولى في الشؤون اللبنانية متصلة، طوال أعوام ما بعد الحرب، بذراع الحضور العسكري السوري. وأصبحت هذه اليد متفرعة إلى أصابع لأجهزة سورية ولبنانية مؤتلفة ومتداخلة ومتوجة برؤوس سياسية مرعية المواقع والحرمات ومعروفة العناوين. ثم تطاولت عبر سنين من السعي الدائب فغدت لا تعف عن مستوى من مستويات الحياة اللبنانية، أيا يكن. فهي تدير في بلادنا شبكات من السياسيين وتلعب بالموازين بينهم لإدامة الضبط والولاء. وهي تدير شبكات أخرى للمراقبة والردع والقمع بما يتجاوز القانون أو يسخّره، لا يستثنى من بين أدواتها بعض القضاء. وهي تدير شبكات ثالثة إدارية ورابعة إعلامية وثقافية وخامسة مالية واقتصادية. وهي تصل من المجتمع إلى تضاعيف كبيرة أو صغيرة من نسيج طوائف وعشائر وعائلات وتُداخِل مواقع التأثير في أحزاب ونقابات وجمعيات من كل نوع.
فكان أن أفضت هذه الهيمنة إلى هندسة مجددة للمسرح السياسي اللبناني بمعظم عناصره، متخذة الموازين الطائفية والموازين بين كسور الطوائف وسيلة سياسية لإرساء قواعد لنفسها. وكانت القاعدتان المرعيتان بمنتهى الحرص والحزم أ ـ إبقاء شرعية التمثيل المسيحي مطعونا فيها من جهة المسيحيين بإقصاء بعض من أبرز قادتهم السياسيين عن الساحة و ب ـ الحؤول دون نشوء أحلاف بين قوى مسيحية وأخرى إسلامية معتبرة التمثيل.

حق الاختيار

وقد تآزر في توطيد هاتين القاعدتين وغيرهما الخوف والمنفعة واللعب بالقوانين، وبخاصة قوانين الانتخابات، وبالتحالفات الانتخابية وبعمل مؤسسات الدولة وإداراتها وبمؤسسات مختلفة في القطاع الخاص. أي أن الإرهاب المتعدد الوسائط اقترن بتوزيع مغانم الفساد بأصنافه كافة. فباتت شبكة الهيمنة، بخيوطها الغليظة والدقيقة، تنتهي إلى تجميد جسيم لمفاعيل القانون: من كفالة للحقوق ومن زجر لهدرها وللعدوان عليها. فيصبح الولاء والرضوخ والامتثال والصمت، ناهيك بتقبل السخرة السياسية وبدفع المال إذا وجد، أثمانا يؤديها المواطن كلما عرضت له حاجة يريد قضاءها، بل كلما خشي أن تعرض له حاجة في مقبل الأيام. وتصبح هذه الأثمان كلها محتملة جدا لنيل الحق ومحتملة أيضا لنيل الباطل، على ما سلف، حيث يكون موضوع شهوة.
في هذه البيئة الرهيبة كان يحكى عن انتخابات "حرة" تجري... نيابية وبلدية ونقابية وغير ذلك. وكان المختصون يستغرقون في مناقشة مخالفات تحصل أو لا تحصل، في أيام الموسم الانتخابي، ويفرغون جهدهم في بحث تفاصيل القانون أو النظام. هذا بينما كانت حرية الاختيار مصادرة سلفا، على نطاق بالغ الاتساع. فكان من يحمل مفاتيح الجنة ومفاتيح النار يعرف أن الأكثرين من المرشحين يتنافسون على مرضاته، أوّلا. وكان يعول على أنه حيث يوجد من يغاضبه أو من لا يأبه لأوامره ونواهيه فإن الناخبين سيميزون من تلقاء أنفسهم بين من يملك لهم كل الضرّ وكل النفع ومن ليس في يده من الأمر شيء.
وإذا كانت هذه الشبكة المعقدة قد انبسطت على دولتنا ومجتمعنا انبساطا لم يعوزه الاستقرار، مدة ما بعد الحرب، وداخلتهما مداخلة لم تخل من الإحكام، فإن حصر المنافع الكبرى في رؤوس الشبكات وتوزيع الفتات على جماعات واسعة من اللبنانيين ثم الشح الذي أصاب الدولة الموغلة في أزمتها المالية كانت تترجم كلها تجريدا للبنانيين، جملة، من حقوقهم المفروضة لهم بالقانون وتعليقا لمصير وجوه كثيرة من حياتهم وحرياتهم وأعمالهم ومصالحهم على الامتثال لأوامر الشبكة ونواهيها. وهذا في مناخ من الإذلال نال من المواطنين الضعاف ولم ينج منه الزعماء المستقوون بسلطان مثقل بمنن الجوار وشروطه الباهظة.

الغيظ والانطلاقة

هذا إلى أن منطق الأولويات الذي فرضته الهيمنة ورضخ له شركاؤها اللبنانيون كان ينحرف بسياسة الدولة العامة إلى وجهات مريبة... وجهات تحمل البلاد على مراكب سياسية خطرة وتزج في الهوامش من سياسة الدولة الاجتماعية ما يتصل بمستقبل الأجيال الطالعة، بخاصة. فيتفاقم ثقل نفقات الدولة ويرزح الدين العام المتسارع النمو على كاهل اللبنانيين منذرا بانهيار لا يبعد شبحه تأجيل حصوله، سنة بعد سنة. بل إن الإجراءات الميسـِّرة لهذا التأجيل تتعثر هي نفسها بفعل هواجس الوصاية المتحكمة بموازين السياسة الداخلية وخوفها من تنامي أدوار خارجية أخرى في البلاد تسفر عنه المعالجات المعروضة.
فكان أن بقيت معدلات الهجرة، بعد الحرب، على ما كانته في أعوام الحرب السوداء، مع ضيق متزايد في آفاق الهجرة نفسها يؤرق الشبان والشابات في هذه البلاد ويحير الأسر.
فإنما هو الغيظ من القهر ـ القهر الطائفي وغيره ـ ومن الاستباحة... وإنما هو الرفض لتمادي الأسْر في الخوف والرغبة في تحرير القدرة على معالجة معضلات المستقبل ما حمل هذه الأمواج البشرية على التدفق نحو وسط بيروت، في يوم الحريري المشهود، ثم لم ينقطع سيلها وغلب عليها عنصر الشباب في ما تلاه من أيام. ومع أن المنظمات الشبابية المتفرعة من التنظيمات والتيارات السياسية قد بقيت محتلة صدارة التظاهرات والمبادرات، فإن جمهورا كبيرا من الشبان والشابات جعل من هذه الحركة مجالا بكرا له للمشاركة في حمل الهم العام وللإقدام على الفعل السياسي، معبـّرا، على مدى الحركة، بأساليب وطقوس مميزة، عن أصالة تطلعاته. هذا الجمهور يدخل الميدان السياسي متخففا من أثقال سياسات حزبية وأساليب في العمل كانت الحرب قد غلّبت عليها الصفة الطائفية وطبعتها بطابع من العنف الأهلي ما تزال تحمل بقاياه وما يترتب عليها من نوازع. فهو، من هذه الجهة، أمل يتعين على سائر المعنيين بمصير ديمقراطي للبنان أن يتبينوا ملامحه وشروط نموه وأن يعضدوه ويدافعوا عنه

لنتجادل في رفيق الحريري

أتاحت الفجيعة الوطنية برفيق الحريري هذا كله مع أن الرجل لم يكن بعيدا عن سياسات الحكم، بعد الحرب، وإنما كان في قلبها. فإذا جاز الحساب السياسي على لبناني عما آلت إليه أحوال الدولة اللبنانية، بعد الحرب، فإن رفيق الحريري، لو بقي بيننا، لكان بين من كان يتوجب سؤالهم عما فعلوا وعما امتنع عليهم فعله. ولكن الرجل، بما قيض له من إمكانات شخصية وبما نسجه من علاقات في المجالين العربي والدولي وبما أبداه من عناية بارزة بمستقبل عشرات الآلاف من الشباب وبما اقترن باسمه من أعمال البناء والخدمة، بعد الحرب، كان قد استوى، فيما وراء الجدل المتمادي الذي استثاره مشروعه وأساليبه، فريقا سياسيا تام الأهلية، غير مدين بمكانته ولا بمعظمها لسلطان الوصاية. وهو لم يكن قد توانى عن مسايرة هذا السلطان ومداورته ومعاونته في المجال الدولي. ولكنه كان ذا مشروع سياسي وإعماري للبنان، مفتوح على توازنات المنطقة والعالم، متنوع الموارد والآفاق، غير محصور، بالتالي، بمنطق حاجات يفرضها وصي أخذ، في الأعوام الأخيرة، يزداد هلعا من خسارة "ورقته اللبنانية" ومن نزوعها إلى الانزلاق من يده.
وقد كان اللبنانيون مختلفي المواقف من رفيق الحريري، رجل السياسة والحكم، في حياته، دائبين على المجادلة في حصاد تجربته في الحكم وأسلوبه في الإعمار ومرامي علاقاته ومغازي تصرفاته وآفاق توجهاته. وكان هذا الجدل شاهدا على أهمية الدور وفاعليته وعلى أن الرجل لم يكن ممن يردعون الجدل بإرهاب المجادلين. هذا الجدل يحتاج اللبنانيون، أمسّ الاحتياج، إلى مواصلته ليحسنوا قراءة تجربتهم، مجتمعا ودولة، في عشرين سنة فاصلة من تاريخهم المعاصر.

من الساحة إلى الورقة

وقد ذكرنا هلع الوصي من خسارة الورقة. وكان لبنان الذي سمي "ساحة"، في أعوام الحرب، قد أخذ يسمى "ورقة" في أيام السعي إلى تسوية للنزاع العربي الإسرائيلي. وهذه سنّة لا تزال جارية، في عرف الوصي وفي عرف البعض من ساستنا، حتى الساعة. ومؤداها فهم التضامن بين الدولتين السورية واللبنانية على أنه سياسة إقليمية ترسم في دمشق حصرا ويجوز فيها من الجهة السورية ما يعتبر مناسبا من التنازلات ولا يجوز فيها من الجهة اللبنانية غير تنفيذ التكليفات وتحمل التبعات.

شيء من توبة، شيء من ذاكرة

نقف نحن اللبنانيين اليوم ـ أي بعد ما استثاره اغتيال رفيق الحريري من غضب في ساحاتنا وعبْر العالم ـ على أهبة للخروج من هذه الحقبة المهينة ويبدو أملنا في كسب الولاية على أنفسنا قريبا من متناول اليد. إن للبنان اليوم أن يعدّ نفسه موعودا بالاستواء دولة مستقلة. ولكن الشرط الأول لنجاز هذا الوعد هو أن يحمله جمهور اللبنانيين الأوسع على محمل الصدق وأن يرتبوا له مقتضاه. وأولى الخطى إلى تحقيق هذا الشرط أن تكفّ الطبقة السياسية اللبنانية عن التفاخر والتنافر في شأن سيادة الدولة اللبنانية على بلادها أرضا وشعبا ومؤسسات. وهذا موقف يحتاج اتخاذه شيئا من ذاكرة وشيئا من توبة.
وتفيد الذاكرة أن الأكثرين من هؤلاء السادة لم يصونوا عفتهم عن بيع السيادة تلك بثمن ما، طائفي أو شخصي أو غير ذلك، إن لم يكن في هذا الظرف ففي ذاك وإن لم يكن لسيد يبدو الآن على أهبة الرحيل فلسيد مضى على رحيله أمد ولعله تراوده شهوة العودة. لذا لم تكن السيادة مادة صالحة، تاريخيا، لمحاسبة الساسة اللبنانيين بعضهم بعضا (في هذه اللحظة أو في سواها). بل هي قد لا تكون مادة صالحة لمحاسبة جمهور اللبنانيين ساسته. ليس لجمهور اللبنانيين أن يدعي لنفسه البراءة من دم السيادة هذه، ولا يكون إلا تدليسا منا عليه أن ندعيها له. وما نرانا (ونحن منه) نخشى عليه وعلى أنفسنا شرا من نقد النفس بل نخشى عليه (ونحن منه) من ندرة النقد أو غيبته.
وأما التوبة فمؤداها اجتراح لقاء وطني حول فرصة اليوم ونحو أفق الغد. لا يجترح اليوم شعب بريء من أوزار تاريخه ولا تجترح اليوم طبقة سياسية جديدة. الشعب باق اليوم وغدا والطبقة السياسية يفترض أن تثبت أو تتحول في صناديق الانتخابات، إن لم يكن قريبها فالبعيد. ولكن يجترح اليوم لقاء وطني حول فرصة الدولة المستقلة.
ومؤدى هذا عمليا أن يقرّ "الموالون" بأن مرابطة قوات النظام السوري في البلاد ومعها مكاتب استخباراتها وعُدد تدخـّلها في نسيج السياسة والاجتماع اللبنانيين قد بلغت ختامها وأن يبنوا على هذه الواقعة وليس على وهم مناطحتها ولا على ما هو أدنى منها. فهذه واقعة لم تنشأ ضرورة البناء عليها من مفاعيل الحملة الدولية وحدها على رغم الوطأة الحاسمة لهذه المفاعيل. وإنما جاءت مسندة إلى كون أي جيش ترفض بقاءه في بلاد ما مثل هذه النسبة وهذه المروحة من أهل البلاد يمسي عاجزا عن مواصلة العسكرة السلمية فيها ولا يبقى أمامه غير أن يرحل.
ومؤدى التذكر والتوبة، من جهة "المعارضين"، أن يقرّوا بعجزهم الكلي عن الانفراد بحكم البلاد حكما مستقرا تستقيم به أمورها ولا يجعل "الدولة المستقلة"، ما إن تولد، أثرا بعد عين. فهذه البلاد كان ولا يزال وسيبقى فيها قوى وازنة ترى في المحيط العربي (فضلا عن تمسكها بسوية للعلاقات اللبنانية السورية تحلـّها في مقام الثابت الوطني) قطبا لا بديل منه لمواجهة مساع للهيمنة ـ تمثلها الولايات المتحدة اليوم ومثلها غيرها في ما مضى ـ على هذا الإقليم من أقاليم العالم.
نقول إن هذه القوى ستبقى. ونضيف أنها يجب أن تبقى لأن اضمحلالها أو عزلها لا يعزز استقلال لبنان بل هو قد يطيحه. وقد تتخذ الإطاحة، اليوم أو غدا، صورة التفاقم في صور التدخل الدولي ومفاعيله واشتداد الاستقطاب الداخلي المترتب عليه وتحول الظاهرتين إلى حلقة جهنمية وإلى بيئة لفواجع جديدة. لذا كنا محتاجين إلى بناء الضوابط الداخلية لهذين التدخل والاستقطاب لا إلى هدمها. ثم إن لبنان لا بد له من ضمانة من أهله وساسته ليسلم من مغاضبة شعوب محيطة به هي اليوم في أقصى الغضب من التنمر الأميركي ومن التجبر الإسرائيلي، وأقربها إلينا الشعبان السوري والفلسطيني. ولكن هذا التضامن المبني على الصالح المشترك واللازم لحفظ الاستقلال شيء والتضامن الإباحيّ المفتوح على إبطال مفهوم الدولة وعلى فلسفة "الورقة" شيء آخر.
نحتاج إلى لقاء وطني لأن بناء سياسة لدولة مستقلة تولدُ لنا محتاج إلى قاعدة عريضة من قوى هذه الدولة. وهو محتاج إلى فهم للاستقلال لا يعزل البلاد عن محيطها بل يردّ الصحة إلى ما يربطها به ويدرجها فيه. وهو محتاج في ما وراء ذلك إلى كسب الحرية في إدارة علاقات دولية وإقليمية متنوعة، ذات مراتب وفيها أفضليات، ولكنها قائمة على الحساب الحر وعلى إكراه المصلحة لا على إكراه القوة. فإن هذا هو الاستقلال. ونحن نريد الاستقلال لا الانتقال من تبعية إلى تبعية.

طوائف متخصصة

إن أخطر ما يلوح في أفق هذه المرحلة إنما هو ما ذكرنا من "ترجمة فورية" تحيل موازين المعركة السياسية الجارية إلى موازين قوى طائفية. فهل سنظل نرتضي أن نرى كل مواجهة بين أقطاب السلطة أو على قانون من قبيل قانون الانتخاب أو على مطلب سياسي (ولو كان مطلب الاستقلال نفسه) أو على صيغة للإصلاح تـُجاري تطور الموازين السكانية أو الاجتماعية ـ الاقتصادية أو تطور الذهنيات في البلاد أو على صيغة للتحرير أو لردّ العدوان عن البلاد تؤوّل فورا ـ فيما وراء صور بسيطة أو معقدة من الإنكار والمداورة ـ على أنها مواجهة طائفية ترفع من شأن طائفة أو أكثر من طوائف البلاد وتحطّ من شأن طائفة أو أكثر؟ هل سنظل نوزّع بين كفتي ميزان السلطة هذا (أو بين كفّاته الكثيرة) مكوّنات المجتمع اللبناني التاريخية، وهي التي يفترض أن يحمي القانون حقوق أفرادها بما هم مواطنون وحقوقها بما هي جماعات مذهبية وشبكات اجتماعية؟ هل تطيق بلادنا أن تبقى مناسبات تداول السلطة والصيغ المعتمدة لتكوين مؤسسات الدولة ولسياساتها الداخلية أو الخارجية مطايا لارتفاع هذه الطائفة ولانحطاط تلك وأسبابا لغبطة هذه ولهلع تلك؟
... فيبدو الأمر وكأن في البلاد طائفة أو طوائف متخصصة في الاستقلال وأخرى متخصصة في مكافحة الحرمان أو مقاومة العدوان والاحتلال وثالثة ضليعة، دون غيرها، في الانتخابات الحرة والنزيهة! أي كأن اقتسام الدولة الذي استشرى مع نهاية الحرب ينحو نحو الاكتمال بتوزّع مقوّماتها الأصيلة واختصاصاتها الجامعة.

اتفاق الطائف

ذاك أمر نراه مدعاة لاستذكار اتفاق الطائف الذي اعتمدته الجهتان المتواجهتان اليوم سقفا وخيمة. وهما أعلنتا أحيانا رضوخهما لبنوده كافة. وكان تطبيق هذا الاتفاق قد بقي مفتوحا على التنازع السياسي ـ الطائفي (ناهيك بحضور راعٍ خارجي أو غياب آخر)، شأنه شأن عمل مؤسسات الدولة وشأن القوانين وشأن الدستور نفسه، أي شأن كل ما يفترض أنه حدٌّ للتنازع السياسي أو الطائفي لا مسرح له. وهذه حال يسّرت على الدوام تقاسم كل ما هو عام في البلاد بين القوى السياسية الطائفية وشدّه قطعا تذهب كل منها إلى جهة أو "صاحب"( بالمعنى الذي كان يقال فيه، في قرون غابرة، "صاحب الشرطة" أو "صاحب الخراج"). وكان مؤدى هذا ضرب وحدة مجال الدولة وعموميته.
هذه حال يسرت، على الدوام أيضا، نشوء شبكات( خفيـّة بمقدار ما هي مشهورة) تقبع تحت مؤسسات الدولة، متحللة من المنطق القانوني لعمل المؤسسات( على رغم النسبية البارزة لنفاذ هذا المنطق أصلا). فكانت هذه الشبكات سبيلا إلى إطلاق العنان لمنطق النفوذ والقوة المعتد بالزعامة الطائفية هنا وبحماية الشريك الخارجي هناك وبحصانة المنصب الرسمي هنالك أو بجميعها معا. وكانت مصالح هذه الشبكات موضوعا لتواطئها على هتك المؤسسات أحيانا ولمبارزات علنية بينها تعرقل أعمال الدولة وتبطئ إجراءات تمليها الضرورة أو تنحرف بها عن سكة المصلحة العامة أو تمنعها أحيانا أخرى.
من بين هذه الشبكات تلك التي هتك تقرير "بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق" ما كان بقي من ستر لعجزها عن أداء وظيفتها الأصلية. وهي وظيفة محصورة بأمن الدولة والمواطنين بدت، في التقرير وفي الوقائع، وما تزال تبدو، في أعمال التفجير المتلاحقة، فارغة ممن يملأها. بل إن التقرير قرن إلى إثبات العجز إشارات مهولة الوقع إلى أفعال مرجحة لشبهة التواطؤ، فضلا عن فقدان النية والإرادة للقيام بعبء المسؤولية في مواجهة الجريمة. فكان من هذا التقرير أنه نقل مطالبة المعارضة بـ "إقالة رؤساء الأجهزة الأمنية" من حال المطلب المعنوي إلى حال الضرورة العملية لإجراء هيكلي مركّب يتناول وضع الأجهزة برمـّتها، تنظيما وأداء وطبيعة التزام.
... في كل حال، كان اتفاق الطائف قد لبث نصا دأبت الأطراف اللبنانية على إحداث خروق فاغرة في نسيجه. فوجد من كان قد نسي أعواما ـ على رغم كثرة المذكّرين ـ أن الاتفاق قال بالانسحاب السوري ونظـّمه. ووجد من نسي نسيانا شاءه مؤبدا أن الاتفاق نفسه نص على آلية للخروج من الطائفية السياسية. ووجد من تذكر هذا النص أحيانا ولكن ليتخذه سكينا يهدد به الخصوم المذكّرين بلزوم انسحاب القوات السورية وقيام الدولة السيدة. وكانت صفة السكين متحققة فعلا، موافقة لغرض التهديد، لأن تجاوزا للطائفية يلعب بموازينه الراعي السوري كان سيؤول إلى كارثة للبنان. يبقى مع ذلك أن الشعور اللبناني بضرورة هذا التجاوز بقي قائما من دستور 1926 إلى ميثاق 1943 إلى اتفاق الطائف. وها إن "الترجمة الفورية" التي ذكرنا (وقبلها عورات أخرى كثيرة لهذا النظام يكاد لا يتسع لها مقام) تردّنا إلى ضرورة ذلك التجاوز...
فهل سيتذكر هذه الضرورة أحد ممن يتخذون اتفاق الطائف غطاء وسقفا في هذه الأيام على ضفتي الموالاة والمعارضة ويؤكدون، من حين إلى حين، حرصهم على بنوده "كافة"، ولكن لا يستذكرون، بالتحديد، إلا ما يهمهم منها؟ ليؤذن لنا بالشك في أن يتعظ بأزمات هذا النظام وبما ترتبه على البلاد من كُلـَف وتزجها فيه من مهالك، من هم ثمرات هذا النظام ونسل أزماته، على التخصيص. ولكن ليؤذن لنا أيضا بالقول إنه ما لم تتوقف "الترجمة الفورية"، بانصراف اللبنانيين عن عتادها وتقاناتها والمختصين بها إلى منطق آخر لنظامهم، فإن صون المكسب من كل معركة يخوضونها سيكون متعذرا وإن مصير بنيانهم الوطني سيبقى رهينة لانفجار أو لانهيار قد يأتي أدهى من الانفجار أو يكون بين أسبابه.
اليوم يواجه لبنان، وهو في مهب أزمة عارمة، أكثر من ضرورة واحدة قريبة. يواجه ضرورة سن قانون للانتخابات النيابية يصون حرياتها (وهي أكثر من حرية واحدة) ويكفل نزاهتها، بالتالي، وهذا في ظل حكومة انتقالية قادرة تجتمع لها شروط الصيانة والكفالة. ويواجه ضرورة الخروج من الانتخابات بحكومة وحدة وطنية تجتمع لها قاعدة كافية الاتساع لوضع هدف الإصلاح في النظام والدولة في صورة برنامج يتناول كل صعيد: السياسة والأمن والاجتماع والاقتصاد والمال والنقد. هذه القاعدة الواسعة ضرورية أيضا لمواجهة ضغوط الخارج، من أين أتت، على سياسة البلاد الإقليمية ولتجنيب هذه السياسة كل مغامرة تكسر الوحدة الداخلية.
تلك كلها مطالب توافق روح اتفاق الطائف ونصه. ففي الاتفاق نص على اعتماد المحافظة دائرة انتخابية، وهذا بعد تعديل التقسيم الإداري للبلاد في اتجاه الزيادة في عدد المحافظات. وهو نص لا يمنع اعتماد مبدأ النسبية الذي تزكيه الضرورة الماثلة لتوسيع قاعدة التمثيل النيابي والحؤول دون عزل أية من القوى السياسية ذات الأثر في مرحلة إقرار الإصلاحات المفروضة. وهذا يمنح قواما فعليا لحكومة الوحدة الوطنية التي ناط بها الاتفاق قيادة البلاد نحو الإصلاح.
وفي الاتفاق أيضا رسم لمعالم الموقع الإقليمي اللبناني تقع في صدارته العلاقات المميزة بين لبنان وسوريا ورفض توطين اللاجئين الفلسطينيين نهائيا في لبنان. وهذان إلزامان يستجيب أولهما لروابط ومصالح أصيلة ليس لأية من الدولتين أن تحيد عن مسالكها، ويبعد لبنان، بخاصة، عن إغراء الخضوع لضغوط أميركية إسرائيلية ظهرت بوادرها، وهي تؤول إلى زج لبنان في موقع من الصراع الإقليمي مناوئ للموقع السوري. هذا ويجب ألا تعني محاذرة هذا الفخ رهنا مجددا لسيادة البلاد ولا، على التخصيص، خوض حروب بالسخرة، نيابة عن النظام السوري: حروب تفضي، لا إلى تحقيق المصلحة المشتركة، بل إلى خراب لبنان لا غير. هذا الإلزام المتصل بالعلاقات اللبنانية السورية يحمي أيضا وحدة اللبنانيين. وأما إلزام رفض التوطين فهو يحمي هذه الوحدة أيضا ويرد عن البلاد أشباحا للتقسيم محتملة التجدد، وهي نفسها أشباح الحرب الأهلية. وهو ـ أي الإلزام ـ يجب ألا يكون حائلا دون مساواة الفلسطينيين، لجهة الحقوق المدنية والاجتماعية، بكل من هو مقيم شرعا على أرض لبنان من غير اللبنانيين. وفي المساواة هذه ما يمهد لتنسيق مع السلطة الوطنية الفلسطينية (حالَ الراعي السوري زمنا طويلا دون حصوله) وما يسهل، بالتالي، جمع السلاح من المخيمات... فهذا السلاح قد أمسى، من زمن طويل أيضا، عدّة اقتتال وإرهاب أهليـّين لا أكثر ولا أقل

المقاومة

هذه المسائل كلها يرعى معالجتها اتفاق الطائف. وهو يرعى أيضا معالجة موضوع المقاومة اللبنانية المسلحة للاحتلال الإسرائيلي. هو يرعاها من جهتين:
أ جهة الجلاء الإسرائيلي عن الأراضي اللبنانية وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي 425. وكان هذا الجلاء في الأفق السياسي للرعاية الدولية التي حظي بها الاتفاق عند إقراره. ولكن الجلاء لم يتحقق إلا بعد عشر سنوات وأشهر من هذا الإقرار اتصلت في أثنائها المقاومة اللبنانية للاحتلال وشهدت لحظات إقدام وظفر باهرين. وهي حظيت أيضا بتضامن واسع من سائر اللبنانيين، على رغم انحصارها طوال التسعينات في جناح واحد من طائفة واحدة. وحظيت، أخيرا ـ والبلاد معها ـ بحماية دولية فاعلة وصلت إلى أوجها مع إقرار تفاهم نيسان 1996.
هذا وليس خطأ القول إن الانحصار المشار إليه زاد من سعة التضامن، من جهة، وأدخل فيه التفاوت وحدّ من درجته، من جهة أخرى. فقد كنا أمام حالة غير معتادة بأي مقياس، هي نيابة جهاز ووسط حزبيين موسومين بانتماء طائفي وحيد، في أعمال المقاومة، عن الشعب كله (وعن سائر الطائفة المقاومة أوّلا). وهذا مع ما في الشعب من كثرة جماعات طائفية وتنظيمات سياسية انحصر دورها (وانحصرت كلفة المقاومة على كل منها) في مهمة التأييد. وهو ما لا يبطله كون البلاد، شعبا ودولة، قد تحملت الكلفة العامة لحرب المقاومة، على كل صعيد. ولم يتحقق هذا الحصر من تلقاء نفسه ولا كان بمنأى عن ضغوط المواجهة الإقليمية في صورتها حينذاك، وأخصها ضغط الحلف السوري الإيراني. فجاء الحصر ثمرة لمواجهات حزبية دامية تعددت ميادينها والأطراف وكانت من عداد فصول العنف الأهلي الأخيرة التي شهدتها نهايات الحرب.
ب ـ ثانية الجهتين في معالجة اتفاق الطائف موضوع المقاومة المسلحة هي نص الاتفاق على حل المليشيات. وهو نص علـّق تطبيقه على المقاومة بحكم تأخر المجتمع الدولي عن إلزام إسرائيل بتطبيق القرار 425. وكان هذا التعليق مساويا للنص المذكور بنصوص أخرى من الاتفاق أرجئ إنفاذها أو صرفت عن غايتها لأسباب مختلفة، ولكنها لم تبطل. بل هي بقيت كلها واجبة الإنفاذ بحكم العقد الذي ارتضاه اللبنانيون ورَعته الشرعيتان العربية والدولية مخرجا من الحرب.
اليوم مضى على حصول التحرير نحواً من خمس سنوات. وكان أول تحرير لأرض عربية احتلتها إسرائيل لم تصحبه إملاءات إسرائيلية من أي نوع. وكان الفضل فيه لأعمال المقاومة التي تولاها، على الجملة، مقاتلو حزب الله ولم يبخلوا فيها بتضحية. وكان لهم الجميل بذلك على أهل الجنوب المحتل (وهم أهل كثرة منهم) وعلى سائر اللبنانيين. وكان الفضل ثانيا للحنكة المؤكدة وللحكمة الإجمالية اللتين وسمتا مسلك قيادة حزب الله في هذا الصراع المعقد. وكان الفضل ثالثا لارتضاء اللبنانيين، شعبا ودولة، كلفة التحرير على الصورة التي ذكرنا لهذا الارتضاء. وكان الفضل رابعا للدعم الذي لقيه حزب الله من سوريا وإيران. وهو دعم حملهما عليه موقعهما من الصراع الدائر في الشرق الأوسط وحاجتهما الأيدلوجية ـ السياسية، في داخل حدودهما وفي خارجها، إلى حرب لم تخوضاها مباشرة بل أدرجتاها في مواجهتهما مع إسرائيل ووظفتاها في الصراع العام على المنطقة كلها مع بقاء كلفتها ومؤونتها عليهما في حدود مرسومة. وكان الفضل خامسا لما حاط المقاومة ولبنان من حماية سياسية دولية ظللتها شرعية الأمم المتحدة ولجمت تكرارا عدوانية القوة الإسرائيلية وحدت من مفاعيل تفوقها العسكري. وكان الفضل أخيرا لما استنهضته المقاومة من مبادرات الدعم عبر العالم. وهي مبادرات متنوعة عمد إليها أفراد وجماعات، لبنانيون وغير لبنانيين، مسلمون وغير مسلمين.

المقاومة بعد التحرير

اليوم تبدو أركان هذا الوضع الذي استظلته المقاومة وقد تهاوى بعضها فعلا وأدرك البعض الآخر ضعف متفاقم. وأول أركان الوضع المذكور، بل أساسه، إنما هو الاحتلال نفسه.
لم ينس اللبنانيون بعدُ أن السلطتين اللبنانية والسورية استقبلتا التحرير، حين لاحت بشائره، بحرَج مريب، وكأنهما عدّتاه حدثا مشؤوما. ولم ينس اللبنانيون بعدُ ما تكشف من بَعد، وهو أن السلطتين المذكورتين لم تغادرا هذا الحرج إلا حين وجدتا مخرجا لاستدامة الوظيفة الإقليمية للمقاومة ـ أي وظيفة "الورقة" ـ هو مسألة مزارع شبعا. ويعلم من يعلم من اللبنانيين أن الدولة السورية كانت قد بسطت "سيادتها" الأخوية على هذه المزارع (اللبنانية من غير أدنى شك) قبل حرب حزيران 1967 بنحو من عشر سنوات. ويعلمون أن مجلس الأمن الدولي أدرج وضعها تحت القرار 242 حين احتلتها إسرائيل في أعقاب تلك الحرب، معتدّا بـ"السيادة" السورية المشار إليها.
ويعلم من يعلم من اللبنانيين أن السلطتين السورية واللبنانية بذلتا وسعهما، بعد تحرير الجنوب المحتل وقبله أيضا، حتى يتعذر تحرير مزارع شبعا مع إنفاذ القرار 425. فكان أن أحجمتا إحجاما مريبا عن ترسيم الحدود في تلك المنطقة وإيداع الأمم المتحدة ما تحتاج إليه من وثيقة وخريطة مصدقتين لتدرج "المزارع" في الجهة اللبنانية من الخط الأزرق: خط القرار425 وخط التحرير والخط الذي يجب أن يطابق الحدود اللبنانية. ويذكر اللبنانيون أن الأمم المتحدة كانت جادة في فرض الرسم القانوني لهذا الخط إلى حد مكّن لبنان من استرداد أراض كانت إسرائيل قد قضمتها سنة 1948.
يذكر اللبنانيون أيضا أن مسألة المزارع كانت مستغرقة المشهد كله حين أعلن حزب الله استمرار المقاومة. ويذكرون أن الحزب لم يعمد إلى تصدير أهداف من قبيل الحماية وردّ العدوان وتحرير الأسرى إلا حين أخذ يبدو، بين حين وآخر، أن إسرائيل قد تعمد، من جهتها، إلى الانسحاب من مزارع شبعا طلبا لتسكين جبهتها اللبنانية وتلطيفا لضيق رأي عام دولي أغضبته (أو أحرجته) أفعال أخرى تقوم بها إسرائيل في ديار أخرى.
أما حماية الأرض وردّ العدوان وتحرير الأسرى فيعلم حزب الله (و يفترض أن يعلم سائر اللبنانيين) أنها من بين اختصاصات الدولة السيدة. وهذه اختصاصات لا يجوز للدولة أن تحيلها إلى تنظيم مسلح تدعه مرابطا على حدودها ولا تعدّ نفسها ولا يعدّها القانون الدولي، ومن ورائه الرأي العام في الداخل والخارج، مسؤولة عن أفعاله. وإنما هي ملزمة والبلاد معها، وهي في حال عراء قانوني تام، بتحمل تبعات هذه الأفعال وعواقبها، لا من جهة إسرائيل وحسب (مع أن هذه يجب أن يحسب حسابها) بل من جهة الأمم المتحدة ومجتمع الدول أيضا. ثمة حالة حرب بين لبنان وإسرائيل وثمة اتفاق لبناني إسرائيلي صدّق سنة 1949. وحين لا يبقى من احتلال لا يبقى غير هذا الاتفاق متوجب الإنفاذ من الجهتين وتصبح الدولتان مسؤولتين مسؤولية تامة عن كل حامل بندقية يطلق طلقة عبر الحدود، عسكريا كان أم مستوطنا في الجهة الإسرائيلية أم "مقاوما" في الجهة اللبنانية.
فأي عمل يسع المقاومة أن تقوم به إذ ذاك ولا يعرّض الدولة ويحد من غائلة الرد على البلاد؟ إن كان هذا العمل حماية للحدود ودفاعا عنها فهو مهمة الجيش (ليس له غيرها إلا استثناء ولا يسوّغ وجوده غيرها أصلا). وإذا جاز للدولة أن تسلح قوة شبه عسكرية من الأهالي تؤازر الجيش عند الضرورة (وتسمى "الحرس الوطني"، على سبيل المثال) فالدولة مسؤولة عنها وعن أفعالها مسؤوليتها عن الجيش نفسه وعن أفعاله. مثل هذا جائز، حين تثبت الحاجة إليه. ولكن سيكون متعذرا إقناع اللبنانيين (ناهيك بغيرهم) أنه يجوز للدولة إيكال هذه المهمة إلى تنظيم حزبي، وحيد الطائفة فوق حزبيته، يسلـّحه غير الدولة ويفترش، في مباشرته مهمته، شبكة من العلاقات الخارجية والداخلية، السياسية وغيرها، لا تلمّ الدولة بأوائلها ولا بأواخرها. سيكون متعذرا، في هذه الحالة، إقناع اللبنانيين (وغيرهم ابتداء من إسرائيل نفسها وانتهاء بالأمم المتحدة) بأن دولة هذه سيرتها هي... دولة.

مشروع الدولة

اليوم يضع حزب الله "مشروع الدولة" في موضع الصدارة من تناوله حاضر البلاد المحتدم ومستقبلها المرتجى. وهذا كلام جدير بكل تقدير إذ هو يشير إلى شوط طويل طواه هذا الحزب في عشرين سنة مضت على بروزه إلى العلن: شوط أوصله من "جهادية" خمينية القدوة، عابرة للحدود الوطنية في الثمانينات، رافضة، في أواخرها، لاتفاق الطائف، إلى مشاركة في المؤسسة البرلمانية، ابتداء من مطلع التسعينات... وهي مشاركة شهدنا فيها النزعة إلى حماية عمل المقاومة (بتأطير الوسط الذي نمت فيه وتحقيق الغلبة فيه وبتحييد نوازع التجاذب في المحيط الوطني) وقد غلبت النزعة المقابلة إلى الضلوع الشامل في سياسة الشؤون العامة. إلى أن وصل الحزب اليوم من الشوط نفسه إلى شعار "مشروع للدولة" يراه متوجب الحماية...
والحال أننا اليوم في ظرف يوجب مصارحة الحزب بأن مشروع المقاومة المستمرة بات مفتقرا إلى كل ما حاطه بالحماية حتى اليوم: أي إلى مواءمته مشروع الدولة في نظر اللبنانيين أوّلا وإلى الشرعية الدولية التي انطلقت في لجمها القوة الإسرائيلية من واقع الاحتلال ومن قرارها القاضي بجلاء المحتل. هذا فضلا عن أن المسلكين السوري والإيراني في الصراع على الشرق الأوسط عادا لا يمثلان نموذج المجاهد الذي لا تلين له قناة ويصح أن يأتمر به مجاهدو الأقطار المحيطة في هبـّة واحدة شاملة. هما لا يبدوان ممثلين لهذا النموذج إذا اعتبرنا بالاختبارين الأفغاني والعراقي وباختبار إيران في موضوع الطاقة النووية وباختبار سوريا في الموضوع اللبناني أخيرا. واللبنانيون ذوو حق في أن ينظروا في تلك الاختبارات ويتبينوا فيها بعضا من منطق الدولة ناهيك بمنطق "مشروعها".
ولا يقولن لنا الحزب إن هاتين دولتان ونحن "حركة شعبية". هذا يصح ما دمنا في حدود موقف سياسي يتوجه به إلى الدولة. وأما حمل السلاح فلا نراه شائعا في سوريا ولا في إيران بالنيابة عن الدولة وخارج مسؤوليتها أمام الداخل وأمام الخارج. فهذا لا يستقيم إلا في دولة محتلة أو في دولة مستضعفة، وقد كانت الدولة اللبنانية، إلى عام 2000، جامعة الصفتين معا فلم يبق منهما اليوم إلا الثانية. بل إن فلسطين، وهي لا تزال رازحة كلها تحت أعتى احتلال في عالم اليوم كله، راحت المقاومة المسلحة فيها تتجه، بفصائلها الرئيسة، نحو تسليم أمر التحرير إلى السلطة المنتخبة مقرّة لها بالحق في سياسة هذا الأمر سياسة لا يعترضها العنف المقاوم أو المعارض فتكبو عند كل محطة. فكيف سيسع حزب الله أن يجمع ما بين التعويل على استضعاف الدولة اللبنانية والحرص على مشروع الدولة من غير إدخال للبلاد في ظلمات انفجار أو انهيار لا ينجو من أيهما هو ولا الدولة ولا البلاد؟

1559

اليوم بتنا مظللين بالقرار 1559، وهو قرار شقّ صفّنا بعد أن نعمنا زمنا طويلا بظل القرار 425 وكان مشتدا به أزرُنا. وكان عجزنا عن مباشرة أمورنا بأنفسنا، ونحن تحت ربقة النظام السوري، هو ما جرّ علينا وبال الاقتحام الدولي لساحتنا. فإن التمديد لرئيس الجمهورية الحالي، ولا شيء غيره، وكان عرْضا سخيفا للقوة السورية في "ساحتنا" ولقدرتها على إذلال ساستنا حالا والمقايضة بنا مآلا، هو ما نقل أوروبا من موقف إلى موقف حيال مسألتنا وجعل منا بابا لتجديد ظهورها موحدة في الشرق الأوسط، بعد انقسامها حول المسألة العراقية. فنـُقلنا، بالتالي، من "قانون محاسبة سوريا" (وكانت مداراته محتملة الكلفة) إلى القرار 1559، وهو باب مفتوح لسلبنا مقاليد أمورنا مرة أخرى ولجعل بلادنا ـ إذا أسلسنا القياد ـ قدوة (أو عبرة لمن اعتبر، بالأحرى) في نظام شرقٍ أوسط تحكمه أميركا وتتصدره إسرائيل. ونحن لا يلائم دور القدوة هذا سلامة علاقاتنا في ما بيننا ولا مصالح بلادنا في محيطها القريب.
تقع على عاتق حزب الله مسؤولية كبيرة هي مسؤولية تدبر العواقب المترتبة على هذا القرار، وهي عواقب لا تًتدبر بدعوة مجتمع الدول إلى المبارزة على الأرض اللبنانية. فإن الإصرار السوري على التمديد لأميل لحود والإعراض عن انتخاب مرشح من بين حفنة من المرشحين ما كانوا إلاّ ليبزوه في مجاراة الهيمنة السورية إنما هما إصرار وإعراض قابلان للتفسير وما هما بأحجية. فقد كان في يد هذا الرئيس إنجازان لم يؤثر له سواهما مما يجعل له ميزة سورية على غيره. وأولاهما مناوأته العنيدة لرفيق الحريري من موقعه على رأس الهرم الاستخباري ـ العسكري وثانيتهما توفيره الحماية السياسية، من موقعه على قمة الدولة، لاستمرار خيار المقاومة المسلحة في الجنوب، وهذا وفقا للرغبة السورية وتبعا لحاجته إلى قاعدة سياسية امتنعت عليه في طائفته وحجبها عنه الحريري، قبل غيره، في الطائفة الثالثة الكبرى. لذا كانت تقع على حزب الله مسؤولية كبيرة في تدارك الغلط الفادح الذي زُجّت البلاد فيه واستوى الحزب طرفا كبيرا بين أطرافه. وفي يد حزب الله وحده، وقد اعتد طويلا بـ"إجماع" اللبنانيين حول مقاومته، ألاّ يستوي موضوعا متصدرا للشقاق بين اللبنانيين، وهو ـ مرّة أخرى ـ ما يعرف الحزب من عهد طويل عاقبته عليه وعلى سائر اللبنانيين.

الانطلاقة والعالم

نحن محتاجون إلى ردّ هذه المواجهة الرهيبة عن شعبنا: المواجهة بين شطرين من شعبنا والمواجهة بين بلادنا ومجتمع الدول، وهما ستكونان، إن أعوزتنا الحكمة، مواجهة واحدة. ونحن نعتقد أن في يدنا فرصة للنجاح بشرط الحكمة. هذه الفرصة هي نفسها الفرصة الوحيدة لمشروع الدولة وهي فرصة استوائنا دولة مستقلة. وهي فرصة أدى رفيق الحريري حياته ثمنا لها. فكان أن أخرجت الجريمة اللبنانيين من بيوتهم وأعمالهم ومدارسهم مانحين بلادهم فرصة هي هذه لا يجوز أن يضيعها السياسيون. وكان أن أدركت صورة انطلاق اللبنانيين من قمقم الصمت والمهانة أطراف عالم أخذ ينظر ويصغي، لا بحكوماته ومرجعياته الدولية وحدها، بل ببشره عامة. هذه الانطلاقة اللبنانية وهذان النظر والإصغاء من العالم يمثلان مادة يتعين على اللبنانيين ـ على قواهم السياسية أوّلا ـ أن يصوغا منها سياسة لشأنهم الوطني تدور فصولها في ما بينهم، على مرأى من العالم ومسمع، وأن يدرأوا بهذه السياسة عبث الدول بمصيرهم. القرار 1559 ليس غير اتفاق الطائف في النص. ولكنه غيره في المرجعية والسياق والعواقب. ولا يسع اللبنانيين أن يجبهوا أحكام هذا القرار بالرفض الفاعل ولا بمجرد الخطابة. فأول مفاعيل هذا الجبه أنه يضعهم بعضا في وجه بعض ويقوض دولتهم شبه المفلسة اليوم. ولكن يسعهم أن يتبصروا في السياق وأن يبعدوا المرجعية ليتقوا العواقب. على أن الشرط لهذا ـ بعد استرداد الوحدة حول مصلحتهم الوطنية العليا ـ أن يبادروا إلى تنفيذ الأحكام متفاهمين. فتلك هي المرحلة الأولى يقطعونها على طريق العودة إلى التطبيق الطوعي لما أبرموه في الطائف سنة 1989 ونحو الاستقلال الذي كثر افتقادهم له بعد 1943 ونحو نهاية حقّة ومستحـَقّة للحرب الأهلية.

أواخر آذار 2005

الموقعون على الوثيقة:

أحمد بيضون، أدونيس، بول سالم، جهاد الزين، جورج دورليان، حسن داوود، حسام عيتاني، خالد زيادة، رغيد الصلح، سليم نصر، شفيق شعيب، عصام خليفة، عباس بيضون، عزّة شرارة، فادية كيوان، فهمية شرف الدين، مارلين نصر، مسعود يونس، منى فياض، نبيل أبو شقرا، يوسف معوّض